حتى عام 648ه/ 1250م، أي قبل الغزو المغولي
لبغداد بثماني سنوات، كان تعداد جيش الخلافة العباسية العربية السُنِّيَّة يبلغ
100 ألف عسكري.. وقد جاء هذا الإنجاز الكبير والضخم بعد حوالى ثلاثة قرون من خروج
الأمر من أيدي الخلفاء العباسيين، حيث كان الخليفة الراضي بالله آخر خليفة عباسي
انفرد بتدبير الجيوش والأموال للدولة العباسية، لتقوم بعد وفاته بخمس سنوات دولة
البويهيين الفرس المتشيِّعين لمدة 110 سنوات، ليُمسكوا بالأمور كافةً ويتحول
الخليفة العباسي إلى مجرَّد واجهة شكلية.. ومع سقوط دولة البويهيين في بغداد سارع
السلاجقة الأتراك السُنَّة ليحلّوا مكانهم ولِيستمرّوا بدورهم في الإبقاء على
الخلفاء العباسيين كمجرَّد واجهة دينية تغطي شَبَقَهم إلى المال والسلطة..
إقرأ الموضوع كاملاً في الأسفل
جيش العراق متى يعود؟!
دراسة تاريخية
عن جيش العراق أواخر العصر العباسي
تأليف: حسين احمد صبرا
(2014)
جيشُ
العراقِ متى يعود؟ (4 من 5)
قبل سقوط
بغداد بيد التتار بسنواتٍ قليلة
الخليفة
العباسي المستنصر بالله
بنى
جيشاً ضخماً بلغ 100 ألف جندي!
حسين أحمد صبرا
حتى عام 648ه/ 1250م، أي قبل الغزو المغولي لبغداد
بثماني سنوات، كان تعداد جيش الخلافة العباسية العربية السُنِّيَّة يبلغ 100 ألف
عسكري، وهو رقمٌ لم يكن يتوافر في تلك العصور إلا في جيوش الإمبراطوريات الكبيرة..
وقد جاء هذا الإنجاز الكبير والضخم بعد حوالى ثلاثة قرون من خروج الأمر من أيدي
الخلفاء العباسيين، حيث كان الخليفة الراضي بالله (322ه- 329ه/ 934م- 940م) آخر
خليفة عباسي انفرد بتدبير الجيوش والأموال للدولة العباسية، في وقتٍ كان زمام
الأمور بدأ يفلت من أيدي العباسيين، لتقوم بعد وفاته بخمس سنوات دولة البويهيين
الفرس المتشيِّعين لمدة 110 سنوات (من سنة 334ه/ 945م وحتى سنة 447ه/ 1055م) ليُمسكوا بالأمور كافةً
ويتحول الخليفة العباسي إلى مجرَّد واجهة شكلية ذات طابعٍ ديني يتبرَّك بها عامة
الناس نظراً لصلة القربى التي تجمع بيت العباسيين الهاشميين بالرسول العربي الكريم
(أبناء عم).. ومع سقوط دولة البويهيين الفرس المتشيِّعين في بغداد سارع السلاجقة
الأتراك السُنَّة ليحلّوا مكانهم ولِيستمرّوا بدورهم في الإبقاء على الخلفاء
العباسيين كمجرَّد واجهة دينية تغطي شَبَقَهم إلى المال والسلطة..
مع نشوء صراعٍ دامٍ على السلطة منذ أواخر القرن الخامس
الهجري بين أبناء السلاطين السلاجقة وأحفادهم أصبحت الفرصة سانحة نوعاً ما لبعض
الخلفاء العباسيين لأن يحاولوا استعادة أمجاد الدولة العباسية وإحياء قوَّتها من
جديد، وكان أول سبيل إلى ذلك إنشاء جيشٍ قوي يقوده الخليفة ويُنفِق عليه، فكانت
محاولة الخليفة العباسي المسترشد بالله خلال 17 سنة من خلافته (512ه- 529ه/ 1118م-
1134م)، والتي أضأنا عليها سابقاً.. وما أن ورث إبنُه الراشد بالله الخلافة حتى
أطاح به السلطان السلجوقي مسعود (قاتِلُ المسترشد) بعد عامٍ من خلافته بعدما لم
يلتزم الراشد بشروط مسعود بعدم إنشاء جيشٍ خاص بالخلافة العباسية وعدم خوض الحروب،
وعُيِّن مكانه المقتفي لأمر الله (أخو المسترشد)، والذي ظل في سدة الخلافة في
بغداد أكثر من 24 عاماً بقليل (530ه- 555ه/ 1136م- 1160م).. بيد أنَّ المقتفي
خيَّب أمل مسعود وأنشأ الجيوشَ وخاض الحروب وحَكَمَ العراق بدون منازع لأول مرة
منذ سقوط بغداد بيد البويهيين قبل 191 سنة، حتى نجد إبنَ الأثير (الذي وُلد إما
قبل وفاة المقتفي بأشهرٍ أو بعد وفاته بأشهر) يقول عنه في "الكامل في
التاريخ": "وهو أول مَن استبدَّ بالعراق منفرداً عن سلطانٍ (سلجوقي أو
فارسي) يكون معه من أول أيام الديلم (البويهيين الفرس) إلى الآن، وأول خليفة
تمكَّن من الخلافة، وحَكَمَ على عسكره وأصحابه، مِنْ حِيْنِ تَحَكَّمَ المماليكُ (الأتراك والفرس) على الخلفاء
من عهد المستنصر (الأرجح أنه يقصد المنتصر) إلى الآن، إلا أن يكون المعتضد
(بالله، أي باستثناء المعتضد بالله)، وكان (أي المقتفي) شجاعاً مقداماً مباشراً
للحروب بنفسه، وكان يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار (الجواسيس) في جميع
البلاد، حتى كان لا يفوته منها شيء". [ملاحظة: استثنى إبنُ الأثير المعتضدَ
بالله من تحكُّم المماليك به لأنه كان مرهوب الجانب إلى حدٍّ نادر، حتى أُطلق عليه
تسمية "السفّاح الثاني" لكونه أعاد الدولة العباسية إلى مجدها الأول،
وقد حكم نحو عشر سنوات 279ه- 289ه/ 892م-
901م.. أما بالنسبة للمنتصر، 247ه-
248ه/ 861م- 862م، فقد بلغ تحكُّم المماليك الأتراك به أن جعلوه يقتل أباه
الخليفةَ المتوكل على الله).
أما الخليفة العباسي الناصر لدين الله، الذي حكم لمدة 46
عاماً (575ه- 622ه/ 1179م- 1225م)، فكانت سلطته مستقلة عن سلطة السلاجقة الأتراك،
وقد شهدت فترة حكمه اضمحلال الدولة السلجوقية وزوالها، واستعادة العباسيين للأحواز
ومحاولة التوسع شرقاً من جديد في أصفهان والري وهمدان، ونشوء صراعٍ بين الدولة
العباسية والدولة الخوارزمية التي نشأت في بلاد فارس وخراسان وأذربيجان على أنقاض
الدولة السلجوقية وحاولت التمدد إلى العراق..
إلى أن جاء المستنصر بالله إلى الحكم: لقد شهد عصر
المستنصر، الذي حكم نحو 17 عاماً (623ه-
640ه/ 1226م- 1242م) إنفاقاً عظيماً على كلِّ شيءٍ بما في ذلك جيش الخلافة،
والأفضل لنا أن نستشهد هنا بتلك الرواية التي قرأناها في "البداية
والنهاية" (لإبن كثير) وتقول إنَّ جدَّ المستنصر بالله (الناصر لدين الله)
كان يجمع ما يَجْبيه من ذهبٍ في بركةٍ في دار الخلافة ويقول: "أَتُرى أعيشُ
حتى أملأها؟!".. بينما كان المستنصر بالله يقف على حافّة تلك البركة ويقول:
"أَتُرى أعيشُ حتى أُنفقها؟!".. وما يهمُّنا في حديثنا هذا أنَّ
المستنصر توفي وقد بلغ تعداد جيشه 100 ألف مقاتل، وهو أكبر دليل على مدى سخائه في
الإنفاق على عسكره.. وبوجود جيشٍ بهذا العدد لم يكن التتار ليَجْرُؤوا على التفكير
باحتلال العراق، لا بل لم يكونوا ليستطيعوا احتلال بغداد بأي شكلٍ من الأشكال
لأنَّ بغداد كانت ستكون حينها مقبرةً لهم.. والمؤرخ العربي إبن واصل، المعاصر لتلك
الفترة حيث كان يبلغ من العمر 35 عاماً حين وفاة المستنصر بالله، قال في كتابه
"مُفَرِّج الكُروب في أخبار بني أيوب" حين الحديث عن وفيات سنة 640ه:
"واستخدم (المستنصر بالله) عساكرَ عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه (الظاهر بأمر
الله) وجَدُّه (الناصر لدين الله). وكانت عدَّتهم، على ما بَلَغَني، تزيد على مائة
ألف. وكان ذا همَّة عالية وشجاعة وافرة وإقدامٍ عظيم. وقَصَدَت التترُ بلادَ
العراق (بعد وفاة المستنصر بثلاث سنوات) فلقيهم عسكرُهُ وانتصف منهم
وهزمهم".
وبالفعل، لقد حاول التتار دخول بغداد عن طريق بعقوبة عام
643ه/ 1245م، أي بعد ثلاث سنوات على وفاة المستنصر بالله (وقبل 13 سنة من اجتياحهم
بغداد) فتصدى لهم جيش الخليفة وهزمهم هزيمةً نكراء، ويصف المؤرخ أبو الفداء تلك
المعركة في كتابه "المختصر في أخبار البشر" فيقول: " "وفي هذه السنة (643ه) قَصَدَت
التترُ بغدادَ، وخرجت عساكرُ بغداد للقائهم، ولم يكن للتتر بهم طاقة، فولَّى
التترُ منهزمين على أعقابهم تحت الليل".. ويقول الذهبي في كتابه
"دول الإسلام": ""وفيها
(أي سنة 643ه) وصلت التتار إلى بَعْقُوبا من أعمال بغداد، فالتقاهم (قائد الجيش
العباسي مجاهد الدين) الدويدار فكَسَرَهم".. أما إبن واصل فيصف ما جرى
في كتابه "مُفَرِّج الكُروب في أخبار بني أيوب" تحت عنوان "ذِكْرُ
قَصْد التترِ بغدادَ ورجوعهم عنها خائبين: "وفي هذه السنة (أي 643ه) أو التي
قبلها قَصَدَت طائفةٌ من التتر بغدادَ ونهبوا ما في طريقهم إليها، ووصلوا إلى سوق
الخيل ظاهر بغداد، واستعدَّت عساكر الخليفة المستعصم بالله للقائهم. ولمَّا جَنَّ التترَ الليلُ (أي
سَتَرَهم) وعلموا أنه لا طاقةَ لهم بمن في بغداد من العسكر، أوقدوا نيراناً
كثيرة لئلا يشعر برجوعهم، ثم رحلوا تحت الليل. ولمَّا طلع الصباح لم يوجد منهم
أحدٌ فتبعهم عساكرُ بغداد يقتلون مَنْ تَخَلَّف منهم وينهبون. وعادوا (أي العسكر)
إلى بغداد".
واعتُبر انتصارُ عسكر الخلافة العباسية على التتار
إنجازاً كبيراً وانتصاراً عظيماً، حتى أنَّ حاكم دمشق الملك الناصر داود (حفيد
الملك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي) كتب قصيدةَ مدحٍ أرسلها إلى الخليفة العباسي
المستعصم بالله وأوردها إبن واصل في "مُفَرِّج الكُروب" كاملةً، ونقتطف
منها الأبيات التالية: تَهَنَّ أميرَ المؤمنينَ بنُصْرَةٍ/ أَتَتْكَ من اللهِ
القديرِ على قَدْرِ/ أَهَنْتَ جَزيلَ المالِ (أي سخى في الإنفاق على العسكر) في
جَلْبِ نُصْرَةٍ/ فأعطاكَ بالتَهْوين عِزّاً على الدهرِ/ لَقِيْتَ ملوكَ التركِ إذ
جاء جَمْعُها/ تُجالِدُ دِيْنَ الله بالكِبْرِ والكُفْرِ/ فَلَلْتَ ملوكاً ما تَسَنَّى لِهِمَّةٍ/ مُلُوكِيَّةٍ
قَصْداً لِعَسْكَرِها المَجْرِ (أي لجيش التتار العظيم)/ وقاتَلْتَهم، إذ
قاتَلوكَ، بعَزْمَةٍ/ كَعَزْمِ رسول الله في عُدْوَتَيْ بَدْرِ/ وَصُلْتَ عليهم
صولةً هاشميةً/ أَذَقَتَهُمُ كأساً أَمَرّ من الصَبْرِ/ تَرَكْتَهُمُ صرعى،
وأشلاءُ صَيْدِهِمْ/ تُوَزَّعُ بين النون والسِيْدِ والنسرِ/ رآكَ وليُّ الأمرِ
كُفْؤاً فَزَفَّها/ إليكَ، تَهادى حينَ أَغْلَيْتَ من المَهْرِ/ فَجَاءَتْكَ
بِكْراً وانْثَنَتْ وَهْيَ ثَيِّبٌ/ فَأَحْسِنْ بها في الدهرِ مِنْ ثَيِّبٍ
بِكْرِ...
إذاً، حقَّق جيشُ الخلافة العباسية انتصاراً باهراً على
التتار قبل تمكُّنهم من اجتياح بغداد بـ13 سنة، وقد لاحظنا قبل قليل في الأبيات
الشعرية السالفة كيف أنَّ الملك الكردي داود أشار إلى السخاء في الإنفاق على
الجيش، فبدون إنفاقٍ جزيلٍ لا يمكن بناء جيشٍ قوي، وهذا أمرٌ ثابتٌ عبر العصور..
فكيف حصل أن تمكَّن التتار من دخول بغداد عام 656ه/
1258م بكل هذه السهولة ودون أن يجدوا
مقاومةً تُذْكَر؟! وعلينا أن نسأل قبلها: ماذا حدث قبل سقوط بغداد بثمانية أعوام؟!
(آب/ أغسطس 2014)
الحديث التالي:
الحديث السابق:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق