2019/02/10

المصريون مرتاحون جداً جداً لأنَّ عبد الناصر رحل عنهم وإلى الأبد!




أقول باختصارٍ وبدون أية مقدمات إنَّ الشعب المصري لم يكن في تاريخه الطويل مهيَّأً (ولن يكون) للدور الطبيعي الذي أفنى جمال عبد الناصر حياته لكي يلعبه شعبُهُ ضمن إطار دولة مصرية عظمى في محيطها العربي والأفريقي والإسلامي..


إنزل إلى أسفل لقراءة الموضوع كاملاً






(هذا المقال المطوَّل يعادل كُـتَـيّـِباً من حوالى 40 صفحة)

في الذكرى الـ48 لرحيلِ رَجُلٍ لا يجود به الزمن إلا مرة واحدة في التاريخ
المصريون مرتاحون جداً جداً
لأنَّ عبد الناصر رحل عنهم وإلى الأبد!
جمال عبد الناصر (صورة صمَّمتها عبر برنامج "فوتومانيا")


(ملاحظة: باب النقاش مفتوح لجميع القراء الكرام حول ما جاء في مقالي المطوَّل هذا، ومهما طال الزمن.. لذا أرجو ممن لديه رد أو نقاش أو تعقيب مكتوب أن يرسله عبر المرسال (الماسنجر) من خلال صفحتي في الفيسبوك، وهي صفحة مفتوحة للعموم، على أن أقوم بنشر الرد في صفحة مستقلة في موقعي الإلكتروني هذا، مع ربطه إلكترونياً بالمقال الأساس).

عناوين فقرات هذا المقال المطوَّل:
دور مصر الإستراتيجي زمن الفراعنة/ جميع الذين لعبوا دور مصر الإستراتيجي بعد الإسلام لم يكونوا مصريين ولا عرباً.. الطولونيون أولاً/ الإخشيديون ثانياً/ الفاطميون ثالثاً/ الأيوبيون رابعاً/ المماليك خامساً/ محمد علي باشا سادساً/ جمال عبد الناصر أول حاكم مصري منذ عصر الفراعنة وأول وآخر مصري بعد الإسلام يعيد إلى مصر دورها الإستراتيجي/ والآن مات عبد الناصر/ "عودة الوعي" إلى المصريين/ فيلم "فيفا زلاطة".. كتابُ المصريين المقدَّس/ إنتماء مصر إلى حضارة البحر المتوسط/ لا لدور مصر في دنيا العرب!!/ حتى أنت يا عكاشة!!/ لماذا كلُّ أعداء عبد الناصر وشاتميه يحظون بشعبية كاسحة في مصر؟!/ "حديثُ الطز" و"تُراب مصر العَفِن"/ العروبة "دعوةٌ جاهلية تحارب الإسلام"/ إبن عبد الناصر ضد أبيه/ عبد الناصر ليس النموذج الأمثل للمصريين.../ ... ولا أنور السادات/ ... بَلْ حسني مبارك هو النموذج الأمثل للمصريين/ أُصَارِحُكُم بالحقيقة الفَجَّة: لم يكن لمصر أيُّ دور في الحضارة العربية الإسلامية/ الخلاصة: علينا الإعتماد على أنفسنا في بلاد الشام والعراق دون انتظار عودة مصر.


تمهيد:
 (أنا العاشق المتـيَّم بمصر وبشعب مصر، وأنا المفتخر بأنَّ ثقافتي مصرية خالصة، وأنا الذي أُربِّي طِفْلَيَّ حسن ونسرين على هذا المنوال.. ومع هذا أكتُبُ هذا المقال)





حسين احمد صبرا
أقول باختصارٍ وبدون أية مقدمات إنَّ الشعب المصري لم يكن في تاريخه الطويل مهيَّأً (ولن يكون) للدور الطبيعي الذي أفنى جمال عبد الناصر حياته لكي يلعبه شعبُهُ ضمن إطار دولة مصرية عظمى في محيطها العربي والأفريقي والإسلامي..
نعم، مصر بطبيعة موقعها الجغرافي كانت وستبقى مهيَّأةً بامتيازٍ وبنجاحٍ باهرٍ ومذهل للعب هذا الدور الإستراتيجي والمحوري في حياة أمة العرب.. ولكنَّ الشعب المصري نفسه لم يكن في يومٍ من الأيام عبر التاريخ مهيَّأً ولا مقتنعاً ولا راغباً في لعب هذا الدور.. وتلك حقيقة علينا أن ندركها بوضوحٍ وبشكلٍ مجرَّد دون محسِّنات ولا أية إضافات.

دور مصر الإستراتيجي زمن الفراعنة

أقصى ما وصلت إليه حدود مصر في عصر تحوتمس الثالث

تحوتمس الثالث
ولنعد بالأمر إلى جذوره التاريخية، لنكتشف أنَّ جميع الحكَّام الذين حكموا مصر عبر التاريخ و سَعُوا إلى استغلال دور مصر الإستراتيجي الطبيعي في محيطها، لم يكن أيٌّ منهم مصرياً!! أُنظروا إلى الفراعنة، وهم من العرب القدامى، وقد جاؤوا إلى مصر من بلاد الشام، كيف استغلُّوا هذا الدور لمصر في محيطها وكيف باتت مصر في معظم عصور الفراعنة ذات نفوذ سياسي وعسكري وإقتصادي وحضاري في محيطها وخاصةً في المشرق العربي، وعلى الأخص في بلاد الشام (سورية ولبنان وفلسطين)، وليس أدل على ذلك ما حصل في عصر الإمبراطورية المصرية المعروف بإسم "المملكة المصرية الحديثة" (1550 ق. م. – 1077 ق. م.)، وليس أقلُّهُ ما حصل إِبَّانَها في القرنين السادس عشر والخامس عشر قبل الميلاد في زمن أمنحوتب الأول (1525 – 1504 ق.م)، وتحوتمس الأول (1504 – 1493 ق.م) الذي وصل بجيشه إلى الفرات، وتحوتمس الثالث (1479 – 1425 ق.م) الذي يوصف بأنه الفرعون الأسطورة والملك العبقري والذي أسس أول إمبراطورية وصلتنا أخبارها في التاريخ امتدَّت من أعلى الفرات شمالاً وحتى الشلال الرابع على نهر النيل جنوباً (حالياً في الولاية الشمالية في السودان عند سد مِرْوِي)، وهو الذي حقَّق انتصاراً عسكرياً تاريخياً في معركة مجدو على سفح جبل الكرمل في فلسطين بات يُدَرَّس في جميع أنحاء العالم، وهو الإنتصار الذي مهَّد لسيطرته على بلاد الشام.. ورمسيس الثاني (1303 ق. م. – 1213 ق. م.)، الذي أعاد السيطرة المصرية على بلاد الشام وخاض معركة قادش الثانية على نهر العاصي جنوب غرب حمص ضد الحِثِّيِّين، الذين كانوا قد انطلقوا من بلاد الأناضول ليحتلوا أجزاءً كبيرة من بلاد الشام.
فراعنة الأسرة السودانية الخامسة والعشرين
وحتى الأسرة السودانية الخامسة والعشرون (من أواخر القرن التاسع قبل الميلاد وحتى 664 ق.م)، والتي يسمي المؤرخون فراعنتَها بالفراعنة السود، وهم الآتون من بلاد النوبة، وقد سيطروا على مصر وحكموها تحت قيادة الأرا النوبي والملوك الذين تبعوه.. حتى هؤلاء الفراعنة السود نجدهم قد سارعوا إلى استغلال موقع مصر ودورها الإستراتيجيَّين فأقاموا دولتهم من شمال السودان وحتى جنوب تركيا مروراً بمصر وفلسطين وسورية ولبنان. وكانت من أقوى الإمبراطوريات في العالم في ذلك الوقت مع وجود الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية.
وفي العصر الفرعوني المتأخر، وفي ظل حكم الأسرة السادسة والعشرين، فإنه وبعد تدمير نينوى عام 612 ق.م. وسقوط الدولة الأشورية ما بين النهرين، حاول الفرعون بسماتيك الأول (664 ق.م. – 610 ق.م.) وخلفاؤه إعادة سيطرة مصر على بلاد الشام، إلا أنَّ البابليين بقيادة نبوخذ نصَّر الثاني تصدوا لهم وحالوا دون ذلك.
ولاحقاً وخلال الألف عام التي سبقت ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية، فإنَّ الحكم في مصر في معظم تلك السنوات قد خرج من أيدي المصريين (أو المتمصِّرين) أنفسهم، بيد أننا نلاحظ أنَّ كلَّ الغزاة الأجانب الذين سيطروا على مصر (اليونان والرومان والفرس) لم يتمكَّنوا من إخضاع مصر إلا بعد سيطرتهم على بلاد الشام، حالُهُم في ذلك حالُ معظم الغزاة الذين غزوا مصر عبر التاريخ.
واستطراداً فإنَّ العرب المسلمين لم يستطيعوا استعادة مصر إلى أصلها العربي إلا بعد استعادة بلاد الشام (والعراق) إلى هذا الأصل العروبي.


جميع الذين لعبوا دور مصر الإستراتيجي
بعد الإسلام لم يكونوا مصريين ولا عرباً..
الطولونيون أولاً

بيد أنَّ ما يمكن ملاحظته في هذا الإطار أنَّ مصر، ومنذ أن أعادها عمر بن الخطاب إلى أصلها العربي في العام 642م (21ه) بواسطة عمرو بن العاص، ظلت طوال أكثر من قرنين من الزمن (تحديداً 226 عاماً) كنايةً عن ولاية عربية إسلامية فحسب، تتبع للخلافة الراشدة وبَعْدَها للخلافتين الأموية ثم العباسية.
حدود الدولة الطولونية (باللون الوردي)
وما جاورها الدولة العباسية (بالرمادي)
وهكذا أُلاحظ أنَّ أول مَنْ عمل على أن تلعب مصر دورها الإستراتيجي في محيطها العربي، منذ أواخر القرن التاسع الميلادي وحتى أواسط القرن التاسع عشر الميلادي أي على مدى ألف عام، لم يكن مصرياً (بل ولا حتى عربياً).. ذلك أنَّ الدولة الطولونية، التي كانت أول إمارة إسلامية في مصر وأول مَنْ ينفصل عن الدولة العباسية، إنما أسسها أحمد بن طولون (868م – 884م) والذي هو من أصل تركي، وُلد في بخارى وكان مملوكاً عند الخليفة العباسي المأمون، وسرعان ما مدَّ دولته إلى بلاد الشام (دون أن ينجح في ضم الحجاز) لتستمر عبره وعبر أولاده 37 عاماً (من عام 868م وحتى عام 905م).. وأود أن أشير هنا إلى أنَّ جيش أحمد بن طولون، والذي سيطر به على بلاد الشام (وحاول به السيطرة على الحجاز)، لم يكن مؤلَّفاً من المصريين وإنما من المماليك الترك والدَيَالـِمَة والروم والزنج.
هذه الدولة الطولونية الممتدة من مصر إلى بلاد الشام إنما نشأت في زمن ضعف الخلافة العباسية، أي في زمن الضعف العربي!

الإخشيديون ثانياً

ثم لاحقاً، وبعد ثلاثين سنة من قضاء الخلافة العباسية على الدولة الطولونية واستعادة مصر لتعودَ مجرَّدَ ولايةٍ عربية، عادت وتأسست فيها الدولة الإخشيدية على يد المملوك التركي محمد بن طُغج (المولود في فرغانة في جمهورية أوزبكستان حالياً)، واستمرَّت هذه الدولة 33 عاماً (من سنة 935م وحتى سنة 968م)، وسيطرت على بلاد الشام والحجاز مستغلَّةً هي الأخرى دورَ مصر الإستراتيجي في محيطها، مع الإشارة إلى أنَّ جيش إبن طغج كان مؤلفاً بمعظمه من الترك والدَيَالـِمَة.
حدود الدولة الإخشيدية (باللون الأحمر)
وكان أشهر حكَّام الدولة الإخشيدية "الأستاذ" أبو المسك كافور الإخشيدي (الذي مدحه المتنبي ثم هجاه)، والذي دام حكمه 23 عاماً، وهو عبدٌ أسودُ مخصيٌّ من الحبشة كان اشتراه محمد بن طُغج، وتدرَّج في وظائفه حتى استخدمه إبنُ طُغج في حملاته العسكرية في بلاد الشام والحجاز، وبعد وفاة الأخير تسلَّم كافور الحكم في مصر. وما يعنيني في هذا الخصوص أنَّ كافور دخل في بلاد الشام في صراع مع الدولة الحمدانية الشيعية، التي راحت تتمدَّد من حلب والشمال السوري إلى الجنوب باتجاه دمشق، ما جعل السيطرة الإخشيدية على بلاد الشام مهدَّدةً بالزوال، فتصدَّى لها كافور، فانهزم أمام الحمدانيين في البداية، لكن ومع التهديد الحمداني بالزحف إلى مصر عاد كافور وهزم الحمدانيين، ثم اضطره الأمر إلى عقد هدنة معهم لتقاسم النفوذ في بلاد الشام مع تصاعد التهديد الذي كانت تتعرض له مصر آنذاك من قبل الفاطميين في المغرب العربي.

الفاطميون ثالثاً

ثم جاء الفاطميون وأسسوا دولةً شيعيةً لهم في مصر (969م – 1171م)، وسرعان ما سيطروا على بلاد الشام سنة 973م. بعدما انتزعوها من يد القرامطة. ثم لاحقاً سيطروا على بلاد الحجاز.
حدود الدولة الفاطمية (باللون الأخضر)
وعلى الرغم من ادعاء الفاطميين بأنَّ نَسَبَهُم عربي ويعود إلى فاطمة إبنة الرسول، إلا أنَّ الكثير من المؤرخين يُرجِعون نَسَبَهُم إلى أصولٍ فارسية مجوسية. وعلى كلٍّ فهذا هو حال مؤسسي معظم المذاهب الشيعية والذين تعود أصولهم إلى الفارسية (الشيعة العُبَيْدِيُّون الإسماعيليون وما تفرَّع منهم من القرامطة والنزاريين الحشَّاشين، والشيعة الإثنا عشرية، والنصيريون أو ما يُعرف في عصرنا الحالي بالعلويين).
أما عن الجيش الفاطمي فهو في غالبيته لم يكن جيشاً عربياً، وتحديداً لم يكن من المصريين (باستثناء قلة قليلة)، فالجيش الذي احتل الـمُعِزُّ به مصرَ (ولاحقاً بلادَ الشام) كان يتألَّف من الأمازيغ والصقالبة (السلاف) والروم (الإيطاليون) والسودانيين. وبعد عدة سنوات كان جيش الخليفة الفاطمي العزيز بالله (975م – 996م) مؤلفاً بأكمله تقريباً من الأمازيغ.. وفي أواخر زمن الفاطميين كانت قد أُضيفت إلى الجيش العناصرُ الأرمنية والكردية، وقبلهم كانت توجد عناصر تركية ودَيْلَمِيَّة.
وإضافةً إلى ذلك فإنَّ الفاطميين استعانوا أكثر ما استعانوا في تسيير شؤون الدولة في مصر بالأمازيغ والأتراك والأحباش والأرمن (إلى جانب بعض العرب).. وعقب تسلُّم صلاح الدين الأيوبي الحكم في مصر عام 1169م كان الجيش الفاطمي يتألف من 30 ألفاً من المشاة السودانيين ومن عددٍ كبيرٍ من الفرسان البيض ومعظمهم من الأرمن.

الأيوبيون رابعاً

والدولة الأيوبية (1174م – 1250م) هي دولة أنشأها الأكراد في مصر على أنقاض الدولة الفاطمية، وسرعان ما امتدَّت لتسيطر على بلاد الشام والحجاز واليمن والنوبة وبعض أجزاء المغرب العربي، مع الإشارة إلى أنَّ جيش صلاح الدين الأيوبي كان يتألف في معظمه من الأكراد (12 ألف فارس كردي) بالإضافة إلى بعض الأتراك والبدو العرب، ناهيك عن بقايا الجيش الفاطمي من الفرسان البيض ومعظمهم من الأرمن، والذين انضموا إليه ولم يتمرَّدوا عليه أثناء قضائه على الخلافة الفاطمية في مصر.
حدود الدولة الأيوبية (باللون الأصفر)
وظلَّ الجيش طوال عهد الدولة الأيوبية مكوَّناً من الأكراد بشكلٍ رئيس بالإضافة إلى نسبةٍ أقل من الأتراك والعرب البدو، وذلك حتى آخر الحكَّام الأيوبيين الصالح نجم الدين أيوب (المتوفَّى في أواخر عام 1249م)، والذي راح يعتمد على شراء المزيد من المماليك الترك بعدما أثبتوا ولاءهم له (وذلك أثناء صراعه مع أخيه العادل أبي بكر بن الكامل للسيطرة على مصر، ومع عمِّه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل للسيطرة على دمشق)، في حين خَذَلَهُ جنودُهُ الأكراد، فاستكثر الصالح أيوب من شراء المماليك الترك منذ ذلك الحين حتى بات جيشُهُ في مصر مكوَّناً بشكلٍ رئيسٍ منهم، وقد أَطْلَقَ عليهم لقب "المماليك البحرية".

المماليك خامساً

عقب سقوط الدولة الأيوبية سرعان ما نشأت في مصر دولة المماليك لتحكم مصر لمدة 267 عاماً (1250م – 1517م)، وهي الدولة التي أنشأها نوعان من المماليك:
حدود مصر زمن المماليك البحرية (باللون الأحمر)
- المماليك البحرية (1250م – 1382م)، وهم من أصول تركية، حتى أنَّ معاصريهم من العرب سمُّوا دولتَهم "دولة الأتراك"، وقد شكَّلوا غالبيةَ جيشِ آخرِ الحكام الأيوبيين الصالح نجم الدين أيوب، وسرعان ما سيطروا على بلاد الشام، ثم على الحجاز واليمن وبلاد الأناضول، ثم ليبيا وجنوب العراق وبلاد النوبة. وقد وخاضوا في بلاد الشام حروباً ضد المغول وضد الصليبيين، فَهُمُ الذين هزموا المغول في عين جالوت في شمال فلسطين عام 1260م (بقيادة سيف الدين قُطُز)، وعلى يدهم انتهت الحروب الصليبية عام 1291م بعدما كانوا قد حرَّروا على التوالي: الكرك (في الأردن حالياً) وقيسارية وصفد ويافا (في فلسطين) وجُبَيْل وعرقة (في لبنان) وأنطاكية والمرقب (في سورية) وطرابلس والبترون (في لبنان)، وأخيراً عكا (في فلسطين).
دولة المماليك (باللون الوردي)
وما تحت نفوذها (باللون الأصفر)
- المماليك البُرْجِيَّة (1382م – 1517م)، وهم من أصول شركسية، وقد سمَّى معاصروهم العربُ دولتَهُم "دولة الجراكسة". وقد توجَّهوا إلى دمشق بقيادة السلطان الناصر فرج بن برقوق عام 1400م للتصدي لغزو تيمور لنك لبلاد الشام، إلا أنَّ اضطراب الأوضاع السياسية في مصر حالت دون ذلك وأدت إلى انسحاب الناصر فرج عائداً إلى مصر وتاركاً التتار يستبيحون المدن الشامية. واللافت أنه وبعد مائة عام، ومع بروز الصفويين في إيران والعثمانيين في بلاد الأناضول، فإنَّ المماليك البُرجية رفضوا التحالف مع العثمانيين ضد الصفويين على الرغم مما كان يشكِّله الصفويون من خطرٍ على الدولة المملوكية في العراق والشام، والسبب هو الخوف من تصاعد قوة العثمانيين على حدود الدولة المملوكية وما سيشكِّله ذلك من خطرٍ عليها. وانتهى أمر المماليك إلى الهزيمة في معركة مرج دابق شمال حلب على يد العثمانيين عام 1516م، وسرعان ما أدى ذلك إلى احتلال العثمانيين لبلاد الشام، ثم احتلال مصر عام 1517م وسقوط دولة المماليك.
ومرةً أخرى، وبعد مرور 650 سنة، عادت مصر من جديد لتكون مجرَّد ولاية، ولكن ليست تابعة للدولة الأموية ولا للدولة العباسية، وإنما ولاية تابعة لدولةٍ غير عربية ألا وهي الدولة التركية العثمانية.

محمد علي باشا سادساً

ظلَّت مصر مجرَّد ولاية عثمانية لمدة 300 سنة تقريباً، ولا أجد وصفاً ملائماً سوى أن أعتبره خروجاً لمصر من التاريخ، وهو خروجٌ تعمَّده الأتراك العثمانيون ليس لمصر فحسب، بل ولكل العرب المسلمين من المحيط إلى الخليج.. إلى أن جاء محمد علي باشا (من 1805م إلى 1848م)، والذي يوصف بأنه مؤسس مصر الحديثة، فأعاد استغلال دور مصر الإستراتيجي منطلقاً هذه المرة من السعي الحثيث بدايةً إلى بناء مصر من الداخل على كافة الصعد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وصناعياً وزراعياً وتجارياً وتعليمياً وثقافياً واجتماعياً وعمرانياً، بل ودينياً...
محمد علي باشا
كان محمد علي باشا من أصولٍ ألبانية، وقد وُلد في مقدونيا شمال اليونان، وحينما أَعَدَّت الدولة العثمانية جيشاً لإعادة السيطرة على مصر وطرد الفرنسيين منها، كان محمد علي نائبَ رئيس الكتيبة الألبانية التي كانت من ضمن هذا الجيش (ثم رئيسُها)، وقد وصل إلى مصر عام 1801م.


إمبراطورية محمد علي باشا (باللون الأحمر)
وحصل أن استطاع محمد علي إعتلاء العرش في مصر عام 1805م.. وبتكليفٍ من العثمانيين خاض حرباً ضد الوهَّابيين وسيطر على بلاد الحجاز عام 1816م.. وبعد ذلك إتجه محمد علي إلى السودان ونجح في ضمه إلى مصر كلياً عام 1822م.. ثم جاءت الفرصة المؤاتية له لتحقيق حلمه القديم بضَمِّ بلادِ الشام إلى مصر بعد فشل الحرب العثمانية في اليونان عام 1828م، وهي الحرب التي اعتمد فيها العثمانيون عليه، حتى أنَّ قائد الجيش الفرنسي بواييه ذكر أنَّ محمد علي صارحه عام 1825م بأنه يريد السيطرة على بلاد الشام وصولاً حتى ضفاف دجلة والفرات، وكذلك السيطرة على اليمن والجزء الأوسط من شبه الجزيرة العربية.
إبراهيم باشا
وبناءً على وعيه لدور مصر الإستراتيجي في محيطها العربي استغل محمد علي باشا ضعف الدولة العثمانية للسيطرة على بلاد الشام وبناء إمبراطورية عربية، فبدأ حملته على بلاد الشام عام 1831م بقيادة إبنه إبراهيم باشا، الذي لم يلبث أن بسط سيطرته المطلقة على تلك البلاد في عام 1833م، ونظراً للهزائم التي تعرَّض لها العثمانيون على يد الجيش المصري (المكوَّن من الفلاحين المصريين ضباطاً وجنوداً) فإنَّ ذلك شجَّع إبراهيم باشا على التوغل داخل بلاد الأناضول لإسقاط السلطنة العثمانية.

 
معركة نسيب، التي انتصر فيها إبراهيم باشا
على الدولة العثمانية
كاد محمد علي باشا أن يغيِّر وجه التاريخ في الوطن العربي في زمننا الحاضر فيما لو تُرك يقضي على الدولة العثمانية سيئة الذكر، لكنَّ روسيا وفرنسا وبريطانيا سارعت إلى إنقاذ دولة بني عثمان من السقوط على يد قائدٍ يريد إعادة أمجاد العرب، وقد تمَّ ذلك كله رغم العداء المكين والحروب التي كانت قائمة على قدمٍ وساق بين العثمانيين من جهة والفرنسيين والبريطانيين من جهةٍ أخرى، فصِيْرَ في البداية إلى الضغط على محمد علي باشا وتهديده كي يتراجع عن إسقاط دولة العثمانيين، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى استرضاؤه بالسماح له بالسيطرة على بلاد الشام عبر إتفاقية كوتاهية عام 1833م، وقد استمرَّت تلك السيطرة حتى عام 1840م عندما قرَّرت الدولة العثمانية بالإتفاق مع بريطانيا (عام 1839م) على إخراج مصر من بلاد الشام، فتمَّ حشد الجيوش من جديد.. وبرغم الهزيمة الفادحة التي تعرَّض لها الجيش العثماني على يد الجيش المصري شمال بلاد الشام في معركة نسيب (شرق مدينة غازي عنتاب) وإِيْشَاكِ الدولة العثمانية على الإقرار بأنْ يكون الحكم في بلاد الشام ومصر حقاً وراثياً لمحمد علي باشا، إلا أنَّ بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا جُنَّ جنونها من أن يصحو العرب ويتَّحدوا في إمبراطورية واحدة من جديد، وطلبت من العثمانيين قَطْعَ المفاوضات مع محمد علي، ثم سارعت هذه الدول الأربع إلى عقد مؤتمر في لندن مع الدولة العثمانية عام 1840م لبحث ما سُمِّيَ بـ"المسألة الشرقية"، نَجَمَ عنه في النهاية إخراج محمد علي باشا من بلاد الشام وقَصْرُ حُكْمِهِ على مصر فحسب.
صورة ترمز إلى الجيش المصري
الذي بناه محمد علي باشا
ويهمني هنا أن أذكر أنه – وفي بداية حكم محمد علي باشا – كان جيشُهُ يتألف من الأتراك والأكراد والألبان والشراكسة، إلا أنَّ عدم قابلية هؤلاء للإنضباط في جيشٍ نظامي دفع محمد علي بدءاً من العام 1820م إلى أن يكون عماد جيشه من السودانيين، فجمع 20 ألفاً منهم، بيد أنَّ تفشي الأمراض بينهم أطاحت بالفكرة، فلم يكن أمامه سوى الإعتماد على الفلاحين المصريين بدءاً من العام 1824م ليكونوا عمادَ جيشه النظامي، الذي بلغ تعداده 169 ألف ضابطٍ وجندي وفقاً لإحصاء عام 1833م، ثم ارتفع ليبلغ 236 ألف ضابطٍ وجندي وفقاً لإحصاء عام 1839م.  

جمال عبد الناصر
أول حاكم مصري منذ عصر الفراعنة
وأول وآخر مصري بعد الإسلام يعيد إلى مصر دورها الإستراتيجي


في 23 تموز/ يوليو عام 1952 قامت الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر، وهي الثورة التي أطاحت بحكم سلالة محمد علي باشا، وكان عبد الناصر هو أول مواطن مصري يحكم مصر منذ أيام الفراعنة.
كتاب فلسفة الثورة
على أنَّ أهمية هذا الأمر لا تكمن هنا في هوية حاكم مصر بقدر ما تكمن في أنَّ هذا الحاكم المصري، ومنذ اللحظة الأولى لإستلامه الحكم، وَضَعَ خارطةَ طريقٍ سعى من خلالها إلى أن تعود مصر لتلعب دورها الإستراتيجي الطبيعي في الوطن العربي، وقد عبَّر عبد الناصر عن ذلك في وقتٍ مُبَكِّر وبوضوحٍ تام من خلال كتابه "فلسفة الثورة" عام 1954 حينما وضع لمصر ثلاث دوائر عليها أن تتحرَّك ضمنها: الدائرة العربية، والدائرة الأفريقية، والدائرة الإسلامية.

عبد الناصر مع الوفد العسكري السوري الذي زار
القاهرة سراً طالباً الوحدة الفورية
(12 كانون الثاني/ يناير 1958)
ومع بروز نجم عبد الناصر كزعيمٍ وقائدٍ وبطلٍ عربي في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 عقاباً له على تأميمه قناة السويس، وتعرُّض سورية لضغوطٍ إقليمية وغربية، بدأت أصوات العروبيين في سورية ترتفع بحماسٍ بالغ منذ العام 1957 مطالبين بالوحدة مع مصر، ثم توجَّه وفدٌ عسكري سوري إلى القاهرة في زيارة سرية مطلع عام 1958 لمطالبة عبد الناصر بالوحدة الفورية بين بلاد الشام وأرض الكنانة، أي إعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي ونِصَابها الإستراتيجي مثلما كان الحال هكذا على مر تاريخ البشرية منذ أن عرفت هذه البشرية أَوَّلَ حضارةٍ لها هي حضارة الفراعنة على أرض مصر، لا بل ومن قبل ذلك وخاصةً إذا ما أَعَدْنا التذكير بأنَّ الفراعنة الذين سيطروا على مصر وتمصَّروا عبر آلاف السنين إنما هم عربٌ سوريون قَدِموا من بلاد الشام وفهموا بالفطرة السليمة الطبيعةَ الجغرافية والإستراتيجية الواحدة التي تربط ما بين بلاد الشام ومصر والسودان والحجاز واليمن والعراق (مع الأحواز) والمغرب العربي، أي المساحة الجغرافية المنبسطة والرحبة والتي يفصلها عن محيطها العالمي إما الهضاب ووعورة المسالك كما بينها وبين بلاد الأناضول، وإما سلسلة الجبال الشاهقة كما بينها وبين بلاد الفرس، وإما الصحارى والأدغال كما بينها وبين الداخل الأفريقي، وإما البحار كما بينها وبين أوروبا وبلاد الهند.
عبد الناصر وشكري القوتلي
يوقعان إتفاقية الوحدة
وباختصار، تمَّت الوحدة بين مصر وسورية، وبدأ عبد الناصر منذ ذلك الحين يرفع عالياً شعار الوحدة العربية والقومية العربية، وحَمَلَ لواء القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين، وأخذ يدعم الثورات في الوطن العربي من الجزائر إلى العراق إلى اليمن... ناهيك عن دعم حركات التحرر في دول العالم الثالث. وراح يحرِّض الشعب العربي ضد ما سمَّاه آنذاك بـ"الأنظمة الرجعية العربية"، أي التي لا تريد وحدة العرب ولا نهضتهم ولا تؤمن بالقومية العربية.

والآن مات عبد الناصر

ما حصل منذ وفاة عبد الناصر، أي منذ الإنقلاب عليه من داخل مصر وبسهولةٍ فائقة وحتى وقتنا الراهن، يُظهر لي بوضوح أنَّ عبد الناصر كان ينفخ في قِرْبَةٍ مقطوعة، وأنه كان يُغَنِّي في وادٍ والشعبُ المصري يُغَنِّي في وادٍ آخر، لا بل إنه غَنَّى موالاً لا يستسيغه المصريون، وقد جاءت هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967 لتشكِّلَ الشمَّاعة التي عَلَّقَ عليها المصريون عَدَمَ إيمانهم بدور مصر الطبيعي والإستراتيجي في محيطهم العربي ونَفْضَ أيديهم من مشروع عبد الناصر، والذين هم منذ البداية لم يكونوا آبهين له أصلاً إلا لبرهةٍ من الزمن سرعان ما استفاقوا بعدها.

عبد الناصر وأنور السادات
ولاحظوا معي الفارق:
لقد انقلب أنور السادات على ما جاء به عبد الناصر برُمَّتِهِ، إلى درجة أنه مَنَعَ ذِكْرَ اسمه في الإذاعة والتلفزيون ومحا صورته من على السد العالي، وتمَّ كلُّ ذلك بسهولةٍ فائقة ودون أي اكتراثٍ من الغالبية العظمى من المصريين. فهل كان السادات ليغامر ببقائه على رأس السلطة في حال كان يظن مجرَّد الظن بأنَّ الشعب المصري سيعترض على ذلك ويهب ويثور ضده؟! أم أنه كان على يقينٍ مطلق من أنَّ ما يفعله سيلقى تأييداً واسعاً، إن لم يكن في العلن ففي الضِمْن؟!
العلوي حافظ الأسد يتوسط عبد الناصر
والرئيس السوري نور الدين الأتاسي عام 1969
(وكان الأسد آنذاك وزيراً للدفاع والحاكم الحقيقي لسورية
مع العلوي الآخر صلاح جديد)
وقارنوا ذلك مع ما فعله النظام الشيعي العلوي في سورية (وما يزال) طوال أكثر من خمسين عاماً: فالعلويون كارهون للعروبة (وللإسلام) كراهيةَ التحريم، وحربُهُم الشعواء ضد العروبة جَرَتْ وما زالت تجري على رؤوس الأشهاد، وأقلُّهُ في التاريخ الحديث: فهُمُ الذين تعهَّدوا للمحتل الفرنسي في عشرينيات القرن العشرين بحماية أمن دولة اليهود الـمُزْمَعَةُ إقامتُها في فلسطين إنْ أَوْصَلَهُم الفرنسيون إلى السلطة؛ وهم الذين عرقلوا إعادة الوحدة مع مصر منذ الإنقلاب الذي قاموا به عام 1963 وسيطروا بعده على السلطة في سورية منذ ذلك الحين؛ وهم الذين ورَّطوا عبد الناصر في حرب عام 1967 وقاموا خلالها بتسليم الجولان لإسرائيل؛ وهم الذين أرادوا من حرب عام 1973 أن تكون شكلية وقد أوقفوها من دون علم شركائهم المصريين (دون أن يعني ذلك أنَّ السادات شخصياً كان جاداً فيها)؛ وهم الذين يحمون حدود إسرائيل منذ ذلك الحين ولم يُطلقوا طلقةً واحدة عليها حتى هذا التاريخ؛ وهم الذين أَطلقت أميركا أيديهم في لبنان للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وليفعلوا بهذا البلد ما فعلوه... وأخيراً وليس آخراً تدميرهم المنهجي لسورية أرضاً وشعباً في السنوات السبع الأخيرة عقب قيام ثورة الشعب السوري ضد هذا النظام الشيعي العلوي عام 2011..
ولكن، ورغم كل ما ذكرتُهُ وما لم أذكره، إلا أنَّ هذا النظام العلوي لم يجرؤ طوال خمسين سنةً على رفع شعاراتٍ معادية للعروبة، كما لم يجرؤ على توقيع معاهدة صلح مع إسرائيل أو إقامة أي شكلٍ من أشكال العلاقات العلنية معها.. لا بل فعل عكس ذلك تماماً، فهو وعلى مدى خمسين عاماً ملأ الدنيا صُراخاً وهُتافاً وجَلْجَلَةً وعَجيجاً وضجيجاً تأييداً للعروبة والوحدة العربية والقضية الفلسطينية، وعداءً جَهيراً وكفاحاً مَريراً وشَرّاً مستطيراً ضد إسرائيل.
 لماذا؟!
لأنَّ الشعب السوري العربي المسلم هو شعبٌ عروبي حتى النخاع، وما استماتة العلويين في تلاوةِ آياتٍ في تمجيد العروبة إلا تبريرٌ لسبب وجودهم في السلطة وبقائهم الأبدي فيها.
عبد الناصر في دمشق
وخيرُ شهادةٍ في عروبة السوريين جاء على لسان عبد الناصر في الخطاب الذي أعلن فيه من دمشق قيام الجمهورية العربية المتحدة في 22 شباط/ فبراير 1958، حينما خاطب الشعب السوري بالقول: "النهارده أزور سورية قلبَ العروبة النابض، سورية اللي حَمَلتْ دائماً راية القومية العربية، سورية اللي كانت دائماً تنادي بالقومية العربية، سورية اللي كانت دائماً تتفاعل من عميق القلب مع العرب في كل مكان"..
فهلَّا أدركتم الفارق بين الشعبين السوري والمصري في نظرته إلى العروبة من خلال السهولة المطلقة في ما قام به السادات علناً، في مقابل امتناع الشيعة العلويين المطلق عن الإفصاح العلني عن عدائهم الفعلي للعروبة؟!

"عودة الوعي" إلى المصريين

وأَفْضَلُ وَصْفٍ على الإطلاق أُطْلِقَ على النظرة المصرية التي أتحدَّثُ عنها تجاه العروبة إنما أَطْلَقَهُ واحدٌ من ألمع المفكرين في مصر في القرن العشرين ألا وهو الأديب الأشهر من أن يُعَرَّف توفيق الحكيم.
كتاب "عودة الوعي"
لتوفيق الحكيم
لقد ألَّف كتاباً عام 1972 حمل عنواناً واضحاً وجَلِيّاً وبالغ التعبير، وهو: "عودة الوعي"..
في هذا الكتاب، الذي أثار في مصر والوطن العربي آنذاك ضجةً واسعة وجدلاً أوسع، يقول توفيق الحكيم إنَّ مصر لم تؤيد عبد الناصر طوال فترة حكمه لأنها كانت مقتنعةً بمشروعه، بل لأنها كانت غائبةً عن الوعي.. والآن، وبعد رحيل عبد الناصر، لا بد لمصر من أن تستردَّ وعيها وترفض كلَّ ما جاء به عبد الناصر جملةً وتفصيلاً.


وخلاصة ما يمكن استنتاجه من كلام توفيق الحكيم هي أنَّ مصر الواعية ترفض لَعِبَ أيِّ دورٍ طبيعي واستراتيجي لها في الوطن العربي، وترفض أن تأخذ دورَ الزعامة في محيطها.. وقد كان توفيق الحكيم واضحاً جداً في كلامه في هذا الكتاب (ص93 من الطبعة الثانية من "عودة الوعي")، إذ يقول:
"إنَّ فكرة الزعامة على العالم العربي هي التي أَضَاعَتْنَا جميعاً، وهي التي استحوذت على فكر عبد الناصر وجعلته قوةً مدمِّرةً لنفسه ولمصر وللعرب، وهو درسٌ يجب أن نعيه جيداً لمقاومة كل مَنْ تراوده نفسُهُ على زعامة العرب والسيطرة عليهم بشخصه وبإرادته وأفكاره".
فهل أنَّ توفيق الحكيم كان يغرِّد خارجَ السرب، أم يعبِّر عن قناعة المصريين الراسخة عبر التاريخ في العزلة عن محيطهم العربي وعن تبرؤهم من انتمائهم إلى العروبة؟!

فيلم "فيفا زلاطة"..
كتابُ المصريين المقدَّس

على النسق نفسه، وبعد أربع سنوات من "عودة الوعي"، ظهر في السينما المصرية فيلمٌ فكاهي بعنوان "فيفا زلاطة".. وما يلفت انتباهي بدايةً أنَّ هذا الفيلم ليس فقط من بطولة الفنان الكبير فؤاد المهندس، لا بل هو أيضاً من تأليفه، وزد على ذلك أنه من إنتاجه، وكان يُنْتِجُ أفلاماً لأول مرة..
وسأُعيد عليكم قراءتي السياسية لهذا الفيلم، والتي كتبتُـها عَقِبَ اندلاع الثورة المصرية في كانون الثاني/ يناير 2011، وخاصةً أنه تسنَّى لي صدفةً أن أشاهد الفيلم حينها وأنا على مشارف الخمسين من العمر، بعدما كنت قد شاهدته سابقاً في سن الطفولة:
فيلم "فيفا زلاطة"
لفؤاد المهندس
فهذا الفيلم، الذي عُرض لأول مرة في 24 أيار/ مايو 1976، جاء ليعبِّر عن السياسة الجديدة التي باتت مصر تتَّبعها برئاسة أنور السادات، والتي تتلخَّص في أنَّ مصر لم تعد مستعدة من الآن فصاعداً لأن تحارب نيابةً عن أشقائها العرب ولا حتى التدخل في شؤونهم أو التضحية من أجلهم تحت شعارات "العروبة" و"القومية العربية" و"الوحدة العربية"، فقد قامت بواجبها وأكثر طوال عشرين عاماً ولم تعد مستعدة للقيام بذلك مرةً أخرى، بل عليها الإنكفاء عن دورها القومي العربي وعن مساعدة حركات التحرر في دول العالم الثالث، والإلتفات إلى نفسها فحسب.
فؤاد المهندس في دوره الأول "زلاطة"
وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة عقب تعرضه للإغتيال
فـ"زلاطة" (فؤاد المهندس في دوره الأول، تشبُّهاً بالثائر المكسيكي الشهير إيمليانو زباتا) هو ثورجي وبلطجي من أصل مصري (ويرمز إلى عصر عبد الناصر) وهو موجودٌ في العاصمة "تكسيكو" (تشبُّهاً بالعاصمة المكسيكية "مكسيكو") بعدما هاجر إليها من مصر.. وفي "تكسيكو" يصبح "زلاطة" واحداً من أبطال الثورة هناك ضد النظام الحاكم فيها إلى أن ينجح مع رفاقه في احتلال تكسيكو (تشبُّهاً باحتلال الثائر "زباتا" لـ"مكسيكو") ليصبح حاكماً للمدينة، فيهتف الناس بإسمه: فيفا زلاطة (تشبُّهاً بهتاف: فيفا زباتا، أي "يعيش زباتا")..
فؤاد المهندس في دوره الثاني "متولي"
(إبن شقيق "زلاطة")
على أن أحد أركان النظام السابق (الفنان محمود مرسي) ينجح في اغتيال "زلاطة" (تشبُّهاً باغتيال "زباتا")، فتُسارع أرملة "زلاطة" وإسمُها "نجمة" (الفنانة شويكار) إلى السفر إلى مصر لتستنجد بإبن شقيق "زلاطة" واسمه "متولي" (أيضاً فؤاد المهندس ولكن في دورٍ ثانٍ، و"متولي" هنا يرمز إلى فترة أنور السادات)، طالبةً منه التوجه فوراً إلى "تكسيكو" للأخذ بثأر عَمِّهِ "زلاطة" وإكمال مسيرته الثورية.
ويُظهر الفيلم، الذي هو من إخراج حسن حافظ، التناقض بين شخصية "زلاطة"، الثورجي الشرس بل قُل المجرم، وبين شخصية إبن شقيقه "متولي"، الوديع والمسالم..
"متولي" وقد وصل إلى تكسيكو
يَقْبَلُ "متولي" الذهابَ إلى تكسيكو على مضض، وهناك يكتسب من البيئة المحيطة به طباعَها ويتحول إلى ثورجي شرس ومجرم، وفي النهاية ينجح في الأخذ بثأر عمه "زلاطة" بأن يتمكن من قتل محمود مرسي، قاتِلِ عَمِّهِ (وهذه الأحداث ترمز إلى أنَّ أنور السادات خاض حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973 ضد إسرائيل وأخذ بثأر عبد الناصر).. على أن متولي هذا، وبعد أن أخذ بالثأر وأحب أرملة عمه (شويكار) وتزوج بها، يقرر مغادرة "تكسيكو" نهائياً (أي مغادرة الصراع العربي – الإسرائيلي ودور مصر القومي العربي) والعودة إلى مصر، التي هي في المقام الأول لديه، ليُمضي بقية حياته مع زوجه بأمانٍ واستقرار في مَنْبته حيّ الحسينية (وهو غير حي الحسين.. ومن الضروري هنا أن أذكر لكم أنَّ حي الحسينية يشتهر تاريخياً في مصر بأنه حي الجدعان والشهامة والفُتُوَّة، ونُسجت من شخصياته العديد من الأعمال الأدبية وخاصة في بعض روايات نجيب محفوظ، لذا لم يأتِ اختيار هذا الحي في هذا الفيلم عن عبث، فاختياره جاء لكَيْلِ المديح لشخص "متولي"، الذي ذكرتُ قبل قليل أنه يرمز إلى أنور السادات).
فؤاد المهندس (متولي) وهو يغني
"مصر هيَّ أمي"
ولاحظوا أنه بات يشبه عمَّه "زلاطة" في الشكل والمضمون 
في اللحظة التي يُقَرِّر "متولي" مغادرة "تكسيكو" والعودة النهائية إلى مصر، فإنه يقوم بغناء أغنية "مصر هِيَّ أُمي" (أي مصر وليس تكسيكو، وبمعنىً أوضح: مصر وليس العرب، مصر الهادئة والمسالمة والوديعة التي تهتم بنفسها فقط وليس مصر الثورية التي تحمل على كاهلها قضايا وهموم الآخرين)، واقرأوا جيداً ماذا يقول مطلع هذه الأغنية الوطنية، التي كتبها عبد الوهاب محمد ولحَّنها كمال الطويل:
 مصر هيَّ أمي/ نيلها هوَّ دمّي/ شمسها بسماري/ شكلها بملامحي/ حتى لوني قمحي/ من خيرك يا مصر.
وفي النهاية ينتهي الفيلم بإنشاد الأغنية نفسها ولكن بصوت الكورال.. وفي إنهاءِ الفيلم بهذه الأغنية إشارةٌ واضحة إلى الغرض الحقيقي منه، وهو ما فصَّلتُهُ أعلاه (هذه الأغنية ظهرت لاحقاً بصوت عفاف راضي).
ومُجْمَلُ القول أنَّ فيلم "فيفا زلاطة" هذا هو المعبِّر الحقيقي عن موقف الشعب المصري إنْ لم أقل عن طبيعته تجاه العروبة، ويلتزم به المصريون إلتزاماً صارماً ولا يحيدون عنه قَيْدَ أُنْمُلة، كما لو أنه كتابُهُم المقدَّس.

إنتماء مصر إلى حضارة البحر المتوسط

قد يقول قائلٌ منكم إنَّ الشعب المصري ليس كذلك، وإنَّ ما أقوله إنما يجافيه الصواب.. لكن دعوني أستعرض سريعاً وعشوائياً موقف النُخَب المصرية، والتي هي كما في أي شعبٍ من الشعوب عينةٌ منه ونسخةٌ طبق الأصل منه، لعلكم تدركون كيف تجلَّت هذه "القداسة" التي أشرتُ إليها أعلاه:
طه حسين وكتابه "مستقبل الثقافة في مصر"
فعميد الأدب العربي طه حسين، وهو واحدٌ من ألمع المفكرين المصريين في القرن العشرين وأكثرهم نجوميةً في الوطن العربي، كان قد اعتبر في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1938، أنَّ مصر ثقافةً وحضارةً وانتماءً هي جزءٌ من ثقافة وحضارة حوض البحر المتوسط وتنتمي إليه (الفرعونية – اليونانية – الرومانية)، مع ما يعنيه هذا الطرح ضمناً من أنَّ مصر ليست عربية.. وعلى الرغم من أنَّ هذا الكتاب جديرٌ بالقراءة، كما جديرٌ بالتَفَهُّم، إلا أنَّ الحملة العنيفة التي شنَّها العديد من المصريين ضده لم تكن بسبب المحاولة الضمنية لنفي عروبة مصر وإنما كانت بسبب ما رأوا فيه من محاولة ضمنية لنفي إسلامية مصر (ثقافةً وحضارةً وانتماءً).

لا لدور مصر في دنيا العرب!!

وإلى جانب طه حسين وقبله توفيق الحكيم، وانزواء عباس محمود العقاد، وغيرهم، فإنَّ أشهر أدباء مصر ومفكريها وكتَّابها لم يكونوا متحمسين للوحدة العربية ولا لدور مصر الطبيعي والإستراتيجي في دنيا العرب، بل يعترضون ضمناً أو علناً على أن تكون مصر زعيمةً على العرب، ولا داعي لأن أعرض لكم أسماء الذين لمعوا خلال فترة حكم عبد الناصر كنجيب محفوظ، أو إحسان عبد القدوس، أو يوسف إدريس، أو يوسف السباعي، أو فتحي غانم، أو صالح جودت، أو أنيس منصور، أو موسى صبري، أو غيرهم، وماذا كان موقفهم بعد رحيل عبد الناصر... وكذلك كان حال جميع الأحزاب والتنظيمات والجماعات السياسية التي كانت تنشط على الساحة المصرية قبل ثورة 1952، حيث علينا هنا ملاحظة أنه لم يكن من بينها كلِّها مَنْ ينادي بالوحدة العربية أو بأن تتزعم مصرُ العربَ.
محمد حسنين هيكل مع عبد الناصر
وكلُّهم كَوْمٌ وما فعله محمد حسنين هيكل كَوْمٌ آخر.. فهذا الذي كانوا يصفونه في الغرب بأنه صديق عبد الناصر الحميم وكاتم أسراره، فيصفونه بالإنجليزية: (Nasser's Confident) وبالفرنسية ( Le confident du Nasser)، سرعان ما انقلب على عبد الناصر فور رحيله، فوقف مع أنور السادات ضد الرجال الذين كانوا محيطين بعبد الناصر ويؤمنون بفكره ومشروعه القومي العربي وكانوا ذراعه اليمنى في تحقيقه إنجازاته داخل مصر وخارجها، ولولا الخطة التي وضعها هيكل للسادات كي يتخلص منهم لكان استمرار السادات في الحكم أمراً شبه مستحيل، أو على الأقل ما استطاع الإنقلاب على عبد الناصر على النحو الذي شهدناه.. ثم سرعان ما دبَّ الخلاف بين هيكل والسادات، ذلك أنَّ هيكل لم يكن يريد بأي شكلٍ من الأشكال أن يظهر في الصورة على أنه هو الذي يتحمَّل مسؤولية إنقلاب السادات على عبد الناصر ومشروعه وعلى كل ما بناه، ولا مسؤولية الصلح مع إسرائيل.. وكانت آخِرَ "إنجازات" هيكل في هذا المجال في سنينه الأخيرة (منذ حسني مبارك إلى السيسي) إِسْتِمَاتَتُهُ في الدفاع عن إيران وتجميل صورتها على أنها حَمَلٌ وديع وأنَّ إنقاذ العرب من ضعفهم وشرذمتهم وتخلُّفهم لن يأتي إلا عَبْرَها وعَبْرَ تابعها حزب الله وما شَاكَلَهُ، حتى أنك لن تجد في مصر كلِّها أحداً وصل إلى قمة العداء للعروبة كما فعل هيكل.

حتى أنت يا عكاشة!!

أسامة أنور عكاشة
بل وحتى الأديب العبقري أسامة أنور عكاشة، وهو ناصريٌّ حتى النخاع، لم يكن موافقاً على أنْ تلعب مصر دورها الطبيعي والإستراتيجي في زعامة العرب.. وموقف عكاشة هذا لم يعلنه في تصريحٍ أو في مقال، وإنما هذا ما أَدْرَكْتُهُ تمام الإدراك من خلال مسلسله "ليالي الحلمية"، الذي سَجَّلْتُ أجزاءه الخمسة على شرائط فيديو  (كما هي عادتي مع مسلسلات عكاشة وغيرها من المسلسلات المصرية) ودَرَجْتُ على مشاهدته في العقدين الأخيرين ما يربو على عشرين مرة.
المعلم زينهم السماحي في حالة شطط
بعد إصابته في رأسه أثناء التصدي
للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956
فشخصية "زينهم السماحي" (الفنان سيد عبد الكريم) ترمز إلى عبد الناصر.. وفي الجزء الثاني من "ليالي الحلمية" يُصاب "زينهم السماحي" في رأسه أثناء مشاركته في التصدي للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956.. وهذه الإصابة تؤثِّر على وعي "زينهم" وحالته العقلية من حينٍ لآخر وتؤدي به إلى نوعٍ من الشطط في التفكير والتصرف هو أشبه بالغياب عن الوعي والسَرْح بالخيال أو بالزمن الماضي، ما يُدْخِلُهُ في معارك وهمية أو في متاهات لا داعي لها، وهو الأمر الذي رافقه حتى رحيله.. وبما أنَّ تاريخ عدوان 1956 هو الذي صنع من عبد الناصر زعيماً عربياً أَوْحَدَ وبلا منازع، فإنَّ هذه الإصابة في الرأس ترمز إلى بروز عبد الناصر كزعيمٍ للعرب وساعٍ إلى تحقيق الوحدة العربية، ما يعتبره عكاشة – من خلال ترميزه – شططاً أو إندفاعاً في غير محله.
مسلسل "أرابسك"
لأسامة أنور عكاشة
أما في مسلسله "أرابسك" (عام 1995) فقد طَرَحَ عكاشة مسألة أزمة هوية مصر، والسؤال الذي يطرحه المصريون على أنفسهم في السر وفي العلن: "إحنا مين بالضبط؟!".. هل المصريون فراعنة، أم أقباط، أم يونان، أم رومان، أم عرب، أم ماذا؟! وقد استغل عكاشة مناسبة الزلزال الذي هَزَّ مصر في 12 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1992، ليطرح الخلاصة على لسان بطل المسلسل "حسن أرابسك" (الفنان صلاح السعدني) في الحلقة الأخيرة: "أحسن حاجة، إن احنا نِهِدّ البيت القديم ده خالص ونبـني من أوَّل وجديد اللي احنا عايزينه.. بس لازم نِعْرَف اللي احنا عايزينه.. ومش حنِعْرَف اللي عايزينه غـير لمّا الأوِّل نِعْرَف إحنا مين بالضبط".
ومجرَّد طرح أديب مرموق كأسامة أنور عكاشة لهذا التساؤل يعني بكل بساطة أنَّ هوية مصر ما زالت غير محدَّدة بالنسبة إلى المصريين أنفسهم، وليس فقط بالنسبة إلى طه حسين المنادي بانتماء مصر إلى حضارة البحر المتوسط وتحديداً أوروبا، أو إلى حسين فوزي المنادي بانتماء مصر إلى الحضارة الفرعونية وحدها.. فهل من المعقول أنَّ المصريين حتى الآن لا يعرفون أنفسهم ما إذا كانوا عرباً أم غير عرب؟!

لماذا كلُّ أعداء عبد الناصر وشاتميه
يحظون بشعبية كاسحة في مصر؟!

كلُّ الذين ذَكَرْتُهُم أعلاه (أو لم أَذْكُرْهُمْ) من مفكرين وكُتَّابٍ وصحافيين وأدباء وشعراء وفنانين، إنما يحظون بشعبية كاسحة في مصر، وموقفهم المعادي من عبد الناصر لم يؤثِّر على هذه الشعبية الكاسحة قَيْدَ أُنْمُلة، لا بل إنَّ عداءهم هذا زاد من كَسْحِ هذه الشعبية..
ولكنَّ هؤلاء المفكرين والكُتَّاب والأدباء هم في نهاية الأمر أصحابُ رأيٍ سياسي، فما بالكم لو كانوا أصحابَ رأيٍ يصبغونه بصبغةٍ دينية؟!!
متولي الشعراوي-عبد الحميد كشك-مصطفى محمود
فمن بين كل ما قيل في عبد الناصر عداءً، سواءٌ أكان نقداً أو افتراءً أو شتماً، فإنك لن تجد أشدَّ حقداً مما قاله شيخان مصريان وثالثٌ "مُتَمَشْيِخ"، هم من أكثر الناس شعبيةً بين المصريين منذ ما يقرب من نصف قرنٍ وإلى الآن، بل ولم يشهد تاريخُ مصر كلُّه شعبيةً لشيخٍ كمثل ما  يحظى بها هذان الإثنان: محمد متولي الشعراوي وعبد الحميد كشك، والثالث الـمُتَمَشْيِخ مصطفى محمود.

فالأول، متولي الشعراوي، أعلن أنه سَجَدَ لله شكراً عَقِبَ هزيمة عام 1967، وقد فَرِحَ لأنَّ مصر هُزِمَت وانتصرت إسرائيل واحتلَّت سيناء والقدس والضفة الغربية والجولان، إذ قال للمذيع طارق حبيب في حوارٍ مع التلفزيون المصري لاحقاً: "فَرِحْتُ أننا لم ننتصر ونحن في أحضان الشيوعية، لأننا لو انتصرنا ونحن في أحضان الشيوعية لأُصِبْنا بفتنةٍ في ديننا".
الشعراوي هذا، الذي يتَّهم عبد الناصر بالإلحاد، هو عند الغالبية الساحقة من المصريين، البارحة واليوم وغداً، أشبه بقدِّيس وبالمعلِّم الـمُلْهِم..
أما الآخر، الشيخ عبد الحميد كشك ذو الشعبية الكاسحة في مصر، فيقول عن عبد الناصر: "الزعيم الخالد؛ خَالِدٌ في جهنم إن شاء الله".
والثالث الـمُتَمَشْيِخ مصطفى محمود يَتَّهم عبد الناصر بأنه دكتاتور مصاب بجنون العظمة، أَضَاعَ مِصْرَ وأَضَاعَ شعبها.

"حديثُ الطز"
و"تُراب مصر العَفِن"

من الحملة الإنتخابية للإخوان المسلمين في مصر
عام 2005
والإخوان المسلمون، ورغم أنهم تنظيمٌ محظور في عصر عبد الناصر، ومضيَّقٌ الخناقُ عليه في معظم أيام السادات وحسني مبارك، ومحظورٌ حالياً منذ إبعاده عن الحكم في 30 حزيران/ يونيو 2013، ومعظم قياداته في السجن، إلا أنَّ الإخوان هؤلاء هم رغم ذلك يتمتَّعون بشعبية بين المصريين ليست بالقليلة ولا يستطيع أحدٌ الإستخفاف بها، حتى أنهم حصلوا في انتخابات عام 2005 على 88 مقعداً في مجلس الشعب، وقد نالوا ما نِسْبَتُهُ 35% من إجمالي الأصوات.. فكيف كان سيكون عليه الحال لو لم يلحق بهم أيُّ حَظْر؟!

وغنيٌّ عن القول مدى العداء الذي يكنُّهُ الإخوان المسلمون لعبد الناصر ولمشروعه العروبي، حتى أنَّ الشيخ محمد الغزالي نَعَتَ القومية العربية في كتابه "مع الله" بأنها "القومية العبرية لا العربية"، وإن لم يجرؤوا منذ أيام المؤسس حسن البنا على التكفير العلني لمن يؤمن بالقومية العربية وينادي بها.. إلا أنَّ موقفهم الفعلي والبالغ الخطر هو أنَّ أميركا استخدمتهم (بتمويلٍ سعودي) منذ ستينيات القرن الماضي – وما تزال – هم والجماعات التي خرجت من عباءتهم، لمحاربة القومية العربية ولإخراج مصر من حضن العروبة إلى حضن الإسلام السياسي، الذي يَعتبر القومية العربية بالتحديد كُفْراً، تارةً بالتلميح وتارةً بالتصريح.
محمد مهدي عاكف وحوار الطز
لكنَّ أوضح موقف للإخوان المسلمين من مصر ودورها الطبيعي والإستراتيجي في محيطها العربي إنما قد جاء على لسان المرشد السابق للإخوان المسلمين مهدي عاكف عام 2006 حينما صرَّح قائلاً: "طز في مصر وأبو مصر واللي في مصر"، متمنِّياً لو أنَّ مسلمي ماليزيا يحكمون مصر لأنَّ الجنسية عنده هي الإسلام ولا يعترف بأحدٍ إسمه مصري أو عربي.. وهذه "الطز" سبق وأن قالها الـمُنَظِّر الإخواني سيد قطب وإن بعبارةٍ مختلفة "ما الوطن إلا حَفْنَةٌ من ترابٍ عَفِن، أما نحن فوطننا الإسلام".. وفي الأصل، تلك هي عقيدة حسن البنا نفسُها وهو القائل: "لا وطنية في الإسلام".
وعلى العموم، لا بد من العودة إلى الأصل، ذلك أنَّ الإخوان المسلمين هم في النشأةِ سلفيون تاريخياً ورعايةً واحتضاناً وتمويلاً وهم في الأصل على المذهب الوهَّابي.. فما هو رأي السلفية؟!

العروبة
"دعوةٌ جاهلية تحارب الإسلام"

وأما السلفيون (الوهَّابيون) فإنهم في الوقت الحالي أكثرُ الناس شعبيةً في مصر على الإطلاق، وقد أطلقت أجهزة الإستخبارات المصرية لهم العنان في ثمانينيات القرن العشرين (بتمويلٍ سعودي أيضاً، تماماً كما موَّلت السعودية نفسُها سابقاً الإخوانَ المسلمين لمحاربة عبد الناصر ومشروعه العروبي، ثم موَّلت لاحقاً تنظيم القاعدة)، حيث كان الغرض السعودي – المصري المشترك من السلفيين في مصر منذ أيام حسني مبارك وحتى الآن محاربةَ الإخوان المسلمين، وخصوصاً أنَّ السعودية باتت منذ ذلك الوقت تراهم خطراً على نظام الحكم فيها.
الشيخ عبد الله عزام وكتابه "القومية العربية"
وبدايةً، وبالنسبة إلى السلفيين "الجهاديين"، فإنهم شديدو الصراحة في اعتبارهم القومية العربية كُفْراً، فَهَاكُمْ الشيخ عبد الله عزام، وهو إخواني – سَلَفي وأحد مؤسسي تنظيم القاعدة، إذ يقول في كتابه "القومية العربية" إنَّ "القومية العربية كُفْرٌ يَنْقُلُ من المِلَّة ويُخْرِجُ من الإسلام".


الشيخ عبد العزيز بن باز
وكتابه "نقد القومية العربية"
أما بالنسبة إلى السلفيين بشكلٍ عام فإنَّ أفضل دليل على تكفيرهم للقومية العربية هو ما قاله الشيخ إبن باز (مفتي السعودية السابق) في مقاله المطوَّل "نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع"، حيث ذكر أنَّ القومية العربية "فكرةٌ جاهلية تقليدية لم يأتِ بها شرعٌ ولم يُضْمَن لها نصر".. وأنها "تغريرٌ للعرب عن دينهم".. وهي "تُنَافِسُ الإسلامَ وتحاربه في عقر داره"., و"دعوةٌ جاهلية يستحق دعاتُها أن يكونوا من جُثَى جهنَّم [تُراب جهنَّم] وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون".. وأنَّ الدعاة إلى القومية العربية هم "دُعاةٌ على أبواب جهنَّم"...
لحظة إعدام سيد قطب
وبالمناسبة فإنَّ إبن باز هذا كفَّر عبد الناصر عام 1966 حينما كان على وشك أنْ يُعْدِمَ سيد قطب، منظِّر الإخوان المسلمين والجماعات التي تفرَّعت منها لاحقاً (من جماعة التكفير والهجرة وصولاً إلى القاعدة وبوكو حرام وداعش)، فقد وجَّه هذا الوهَّابي رسالةً إلى عبد الناصر قال فيها:
"باسم الله الرحمان الرحيم، من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الرئيس جمال عبد الناصر، السلام على مَن اتَّبع الهدى. يقول الله عزَّ وجَلّ: }ومَنْ يَقْتُلْ مؤمناً متعمِّداً فجزاؤُهُ جهنَّم خالداً فيها وغَضِبَ الله عليه ولَعَنَهُ وأَعَدَّ له عذاباً عظيماً{. والسلام".

إبن عبد الناصر ضد أبيه

قد يقول لي أحدكم إنَّ معظم اللبنانيين (وأنا واحدٌ منهم) ومنذ ما يُعرف بـ"ثورة الأرز" (14/ 3/ 2005) قد رفعوا شعار "لبنان أولاً"، وأنَّ من حق المصريين بدورهم أن يرفعوا شعار "مصر أولاً" ويُغَنُّوا "مصر هيَّ أُمي".. وأنا أؤيد ذلك كلَّ التأييد، فما نرتضيه لأنفسنا يجب أن نرتضيه لغيرنا، فما بالك إذا ما كانوا إخوةً لنا.
ولكنَّ هؤلاء اللبنانيين بالتحديد وقفوا مع ثورة الشعب السوري ضد نظام العلويين ( الذين يَسُومُونَهُم سُوءَ العذاب منذ خمسين سنة) لأسبابٍ كثيرة وتكاد لا تُحصى، قومية ودينية وإنسانية... ولكنَّ أَهْوَنَهَا أنَّ مصيرنا واحد، فكلُّ ما يصيب سورية وشعبها يصيبنا نحن، فإنْ كان خيراً أصابنا الخير، وإن كان شراً أصابنا الشر.. فماذا كان موقف الشعب المصري مما يحدث على الأرض السورية، التي هي امتدادٌ جغرافي طبيعي واستراتيجي لمصر وتقع على مرمى حجر من أرض الكنانة، وكما أرغبُ دائماً في تسميتها: "الحديقة الأمامية" للمصريين (فكلما أراد أحدٌ منَّا أنْ يخرج من بيته إلى الفضاء الرَحب خرج أولاً إلى حديقة منزله الأمامية)؟!
لا شيء على الإطلاق.. حيادٌ تام، وتجاهلٌ أَتَمّ، وصمتٌ مُطْبَق، وكأنَّ شيئاً لا يحصل، وكأنَّ الإبادة التي يتعرَّض لها الشعب السوري لا تعني المصريين بالمطلق؛ وكأنَّ العدو الفارسي، الذي غزا المشرق العربي: العراق وسورية ولبنان وقطاع غزة والضفة الغربية (بمساعدة أميركا وإسرائيل)، لن يفكِّر في غزو مصر!! أي كأنَّ الإمبراطورية الإيرانية في القرن الواحد والعشرين هي على عكس كل الغزاة الأجانب الذين غزوا المشرق العربي عبر التاريخ، وعلى عكس كل الدول التي نشأت في المشرق العربي ثم سيطرت أو سعت إلى السيطرة على مصر منذ فجر التاريخ!
جمال عبد الناصر مع إبنه عبد الحكيم
دعكم من النظام الحاكم حالياً في مصر والداعم لبشار الأسد بالمواقف والسلاح والخبرات العسكرية، والذي لا يرى في إيران عدواً؛ ودعكم من الناصريين في مصر، الذين تظاهروا أمام السفارة الأميركية في القاهرة تنديداً بتسليح المعارضة السورية (وهو الأمر الذي لم يتم أصلاً)، وتوافدوا زُرَافَاتٍ ووُحْدَاناً إلى دمشق لدعم بشار الأسد؛ ودعكم من موقف الشعب المصري نفسه غير المبالي بالمجازر والإبادة التي يتعرض لها الشعب السوري.. وانظروا إلى موقف إبن جمال عبد الناصر، عبد الحكيم عبد الناصر، من ثورة الشعب السوري ومن نظام بشار الأسد:
فجميع مؤيدي ثورة الشعب السوري هَالَهُم موقفُ إبن عبد الناصر بالتحديد (ودون غيره من المصريين)، المعادي حتى آخر رمق لثورة الشعب السوري، والمستميت في الدفاع عن بشار الأسد، والمجيب مَنْ يسأله عن سبب كل هذا التأييد والدعم، بقوله: "إذا لم أدعم الرئيس بشار الأسد فمن أدعم؟!".. فهل بعد كل ما قدَّمتُهُ لكم من أدلة تستغربون موقفه؟! فحتى إبن عبد الناصر ضد أبيه!!! 

عبد الناصر
ليس النموذج الأمثل للمصريين...

بصريح العبارة، حتى لو أعاد التاريخ نفسَهُ وأتى عبد الناصر آخر، فإنَّ المصريين سيقفون ضده بكل ما أُوتوا من قوة، لأسبابٍ عديدة أبرزها:
أولاً، أنَّ المصريين يتمنُّون أن تصبح مصر دولةً عظمى ذات شأن عالمياً وخاصةً على صعيدٍ إقتصادي.. ولكن ضمن عزلةٍ عن محيطها العربي.
ثانياً، أنَّ المصريين، وهم يتمنُّون أن تصبح مصر دولةً عظمى، فإنهم يتمنُّون حدوث ذلك من تلقاء نفسه وبدون ان يبذلوا أي جهد، وبدون أن يقدِّموا أي تضحية، وبدون أن يخوضوا أيَّ حربٍ قد تنتظرهم من قبل الأعداء إذا ما مضوا في هذا السبيل.. أي أنهم يريدونها "على الجاهز"، تَسْقُطُ هِبَةً من السماء وبدون أن يعملوا شيئاً على الإطلاق.
ثالثاً، أنَّ عبد الناصر ليس بالنموذج الأمثل للحاكم الذي يتمناه المصريون في واقع الأمر.. ذلك أنَّ عبد الناصر شخص جادٌّ وصارم وحازم ومقدام وجريء وواضح الرؤية، ويمتلك مشروعاً حقيقياً، ولا مزاح معه في ما يتعلَّق بما يراه مناسباً لمصلحة المصريين ونهضتهم.. لكنه كان ينفخ في قِرْبةٍ مقطوعة كما سبق وأنْ قلت، ويغنِّي في وادٍ والمصريون يغنُّون في وادٍ آخر، حتى أنَّ عبد الناصر اشتكى مطلع عام 1965 من أننا استطعنا تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، لكننا لم نستطع أن ندير مستشفى القصر العيني!! وقد عزا عبد الناصر ذلك إلى سببين إثنين: الإفتقاد لـ"نظام دقيق جداً" (أي ما يحول دون البيروقراطية والفساد وما شابه)،  والإفتقاد لـ"الروح الحماسية" (أي أنَّ المصريين غير متحمِّسين وغير مبالين)، والأهم في ما ذكره عبد الناصر من أنَّ هذين الأمرين "متعلِّقان بالإنسان في داخله ووعيه وإلتزامه" (أي هو ينتقد هنا نقصان الوعي والإلتزام والجِدِّيَّة لدى المصريين). ثم يضيف: "لو فيه نظام دقيق موجود وماشيين عليه ما كانش القصر العيني يفضل كما هو القصر العيني".. ويتساءل بأسىً: "هل القصر العيني أصعب من قنال السويس؟!" (راجع الجزء الرابع من كتاب "الرئيس جمال عبد الناصر"، إعداد هدى عبد الناصر/ ص498 – 499/ خطاب جمال عبد الناصر في الجلسة التي عقدها مع الهيئة البرلمانية للإتحاد الإشتراكي العربي في 25 شباط/ فبراير 1965).

... ولا أنور السادات

أما أنور السادات فكان ممكناً أن يكون النموذج الأمثل للمصريين لولا أنْ وَجَدَتْ مصرُ نفسَها منبوذة من قبل بعض الأنظمة العربية المتاجرة بالقضية الفلسطينية أو الخائفة من ردة فعل شعوبها على الصلح مع إسرائيل، وهذا ما انعكس سلباً على إقتصاد مصر ومعيشة المصريين، وخاصةً مقاطعة المنتجات المصرية وترحيل الملايين من اليد العاملة المصرية من بعض الدول العربية وخاصة ليبيا والخليج.. ناهيك سياسياً عن طرد مصر من الجامعة العربية، وإلى ما هنالك.
وللعلم، فإنَّ السادات نجح في أمرين شديدَي الأهمية بالنسبة للشعب المصري: 
أنور السادات يصلي
وإلى جانبه متولي الشعراوي
الأمر الأول، أنه لَبِسَ لُبُوسَ الدِين الإسلامي ونَعَتَ نفسه بـ"الرئيس المؤمن" وأعلن مِصْرَ "دولةَ العِلم والإيمان"، أي أنه عزف على الوتر الحساس عند المصريين، المبالِغين تاريخياً في التدين السطحي والتعصب لأي دينٍ يعتنقونه حتى ولو كان ديناً وثنياً. ويهمُّني أن أَلْفِتَ انتباهكم في هذا الإطار إلى أنَّ اليونان والرومان، حينما سيطر كلٌّ منهم على مصر على التوالي (اليونان منذ سنة 331 ق. م، والرومان من سنة 31 ق.م)، لم يجرؤ أيٌّ منهم على المس بالديانة الوثنية التي كان يعتنقها المصريون، لا بل عملوا على التماهي معها، حتى أنَّ الرومان راحوا يضطهدون مَنْ يعتنق الديانة المسيحية الجديدة من المصريين منذ نهاية القرن الميلادي الأول، وراح الإضطهاد يتصاعد مع التزايد تدريجياً في أعداد المعتنقين للمسيحية على مدى القرنين الثاني والثالث الميلاديَّين، ولم يتم الإعتراف بالمسيحية ديانةً رسمية في مصر إلا في القرن الميلادي الرابع بعدما أصبح جزءٌ كبير من المصريين مسيحيين.
والأمر الثاني، أنَّ السادات اتَّبع سياسة "الإنفتاح الإقتصادي"، الذي "زَغْلَلَ" أَعْيُنَ المصريين وفتح شهيَّتهم على سِلَعٍ إستهلاكية مستوردة حُرِموا منها في عصر عبد الناصر.. صحيحٌ أنَّ هذا "الإنفتاح" كان كما سمَّاه أحمد بهاء الدين "إنفتاح السَّدَاح مَدَاح"، وأَطْلَقَ المصريون على المنتفعين منه تسمية "الـمِهَلَّبَاتِيَّة" (نسبةَ إلى أكل المهلبية، أي "إِلْهَطْ وإِجْري")، وانتقده كبير الخبراء الإقتصاديين المصريين علي الجريتلي (الذي لم يكن مؤيداً أصلاً لإشتراكية عبد الناصر)، وصحيحٌ أنَّ الإنفتاح حوَّل مصر من دولة صناعية منتجة إلى دولة مستهلكة ومستوردة لكل شيء... إلا أنَّ الإنفتاح دَغْدَغَ أحلامَ المصريين بإمكانية أن يصبح كلُّ واحدٍ منهم مليونيراً، فما بالك إنْ كان ذلك ممكناً أن يتم خلال فترة وجيزة!

... بَلْ حسني مبارك
هو النموذج الأمثل للمصريين

من هنا، وبما أنَّ عبد الناصر كان جاداً في إنهاض مصر وكان المطلوب من المصريين الجد والتضحية والروح الحماسية، فانْفَضُّوا من حوله سريعاً؛ وبما أنَّ السادات تسبَّب في أزمة مع الأنظمة العربية انعكست ضرراً إقتصادياً على غالبية المصريين؛ فإنَّ حسني مبارك يبقى هو النموذج الأمثل الذي ارتاح إليه المصريون جداً جداً طوال ثلاثين عاماً، رغم ما يُبْدُونَهُ من عكس ذلك. فمبارك تميَّز بالأمور التالية:
أولاً، أنه وكما وصفه الفنان سعيد صالح "لا بِيْهِشّْ ولا بِيْنِشّْ"، وذلك في مسرحيته "كلام حبيبي" عام 1983، حينما خرج عن النص قائلاً: "أمي اتجوزت ثلاث مرات: الأول أَكِّلْنَا الـمِشّْ (ويقصد عبد الناصر)، والثاني عَلِّمْنَا الغِشّْ (أي أنور السادات)، والثالث لا بِيْهِشّْ ولا بِيْنِشّْ (أي حسني مبارك)" (الأمر الذي أدى إلى سجن سعيد صالح نحو عام).. فشخصية حسني مبارك هادئة وليِّنة وغير مستفِزَّة ولا إنفعالية وتنتفي فيها الروح القتالية، وهو ما يستسيغه المصريون، كما ليس لديه أي مشروع يَجْهَد هو ويُجْهِد المصريين معه من أجل تحقيقه، وإنما حَكَمَ مصر على بركة الله، فارتاح وشعر المصريون معه بالراحة، وإنْ هم ينكرون ذلك بعد الإطاحة به، والأيام ما زالت تؤكِّد أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان.
 ثانياً، أنَّ مبارك أمسك العصا من وسطها فهَادَنَ جميعَ الأنظمة العربية دون استثناء، ما سهَّل عودة العمالة المصرية إلى الدول العربية، ومن ثَمَّ تحسُّن الأحوال المادية عند نسبةٍ لا بأس بها من المصريين، بالإضافة إلى فتحه باب الإستثمار واسعاً للمصريين والعرب والأجانب.
عمال مصريون في العراق
ثالثاً، أنَّ مبارك برع في انتهاز الفُرَص، فاستغلَّ العديد من الأزمات والحروب التي شهدتها بعض الدول العربية، من أجل تحقيق بعض المكاسب المادية التي عادت بالنفع الـمُجْدي على الإقتصاد المصري، ومنها على سبيل المثال الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988)، والتي قامت دول الخليج إِبَّانَها بتمويل العراق مالياً، وطُلب من مبارك دعم العراق بالسلاح والخبرات العسكرية (وطبعاً لم يكن ذلك بالمجَّان)، وسدَّت مصرُ النقصَ في اليد العاملة العراقية بعد تجنيد معظم الشباب والرجال العراقيين للقتال في الجبهة، حتى وصل عدد العاملين المصريين في العراق إلى 7 ملايين.. وأيضاً فإنَّ حسني مبارك اشترط على الغرب إعفاء مصر من الديون المترتبة عليها والبالغة 16 مليار دولار مقابل اشتراكه في حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي عام 1991، وهذا ما حصل بالفعل.
المطرب محمد ثروت
رابعاً، أنَّ أي اعتراض كان يظهر من قبل الشعب المصري من حينٍ لآخر على أداء حسني مبارك إنما لم يكن لأسبابٍ سياسية لا من قريب ولا من بعيد، وإنما لأسبابٍ إقتصادية معيشية بحتة، وأفضل مثال على ذلك أنَّ المصريين كانوا كلما عانوا لفترة من الفترات من ظروفٍ معيشية صعبة كلما نَقَمُوا على المطرب محمد ثروت بسبب التشابه الكبير بين ثروت ومبارك في ملامح الوجه.
حسني مبارك مع مجموعة من الفنانين
خامساً، أنَّ حكم مبارك اتَّسم بمساحة كبيرة من الديمقراطية وحرية الرأي نسبياً، شرط عدم المس بشخص رئيس الجمهورية الذي هو حسني مبارك.. حتى أننا نستطيع تكوين فكرة واضحة جداً عن مصر وأحوالها السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال مسلسلات الدراما التلفزيونية التي اُنتجت في الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين (أي طوال ثلاثين سنة من حكم مبارك)، ولا شك أنكم تلحظون فيها كمّاً هائلاً من الإنتقادات، التي طالت فساد رجال الأعمال في مصر (مسلسلات التسعينيات) وفساد الحزب الوطني الحاكم (مسلسلات العقد الأول من قرننا الحالي، والتي تذكِّرني بما يفعله في لبنان أوباش الميليشيات المسلحة، أولئك الذين استلموا السلطة في بلدي عَقِبَ انتهاء الحرب الأهلية).

أُصَارِحُكُم بالحقيقة الفَجَّة:
لم يكن لمصر أيُّ دور في الحضارة العربية الإسلامية

لقد مضى علينا حوالى نصف قرن، أي منذ رحيل عبد الناصر، ونحن نضع يدنا على خدِّنا بانتظار أن تعود مصر لتلعب دورها الريادي في دنيا العرب فتنهض بنا من كبوتنا وتقهقرنا وتشرذمنا وتُصْبِحُ أُمَّةُ العرب في مصاف الأمم الناهضة والمتقدِّمة.. وفي اعتقادنا – نحن العرب – أننا لن تقوم لنا قائمة إلا إذا عادت مصر لتَتَزَعَّمَنا!! وهذا – لَعُمْري – إعتقادٌ خاطىء.. لماذا؟!
لا بد لي هنا من أن أصارحكم بالحقيقة الفَجَّة، والتي أراها كالتالي:
أنَّ مصر لم يكن لها أيُّ دورٍ يُذْكَر في الحضارة العربية الإسلامية، لا في زمن الرسول العربي الكريم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولا زمن الخلفاء الراشدين الأربعة، ولا زمن الدولة الأموية، ولا زمن الدولة العباسية، ولا زمن دولة العرب الأموية في الأندلس..
وإن شئنا التحديد، فإنَّ الوحدة العربية بدأت توضع أُسُسُها منذ عصر الرسول ومن بعده في عصر الخلفاء الراشدين (إنطلاقاً من شبه الجزيرة العربية)، ولم تتحقَّق كلياً إلا في عصر الأمويين (إنطلاقاً من بلاد الشام)، ثم وَرِثَ العباسيون الأمويين (إنطلاقاً من العراق).. فهلَّا أَخْبَرَني أحدُكُم عن دور مصر في ذلك؟!
والأهم، أنَّ الحضارة العربية الإسلامية التي عَلَّمَت العالم بدأت بذورُها في بلاد الشام (في العصر الأموي) ثم نشطت وتألَّقت وتوضَّحت معالمها في بلاد العراق (في العصر العباسي)، ثم أَشَعَّتْ بنورها على أوروبا والعالم في الأندلس (على يد العرب الأمويين).. فهلَّا ذَكَرَ لي أحدُكُم دوراً لمصر في تلك الحضارة العربية التي علَّمت العالم وأصبحت الأساس الذي بنى عليه الأوروبيون حضارتهم التي نعيش في ظلها الآن؟!
فمصر لم يَتَعَدَّ دورُها عن أن تكون مجرَّد ولاية تابعة إما للسلطة الجديدة الناشئة في شبه الجزيرة العربية ومركزها في بلاد الحجاز وعاصمتها يثرب، وإما للدولة الأموية ومركزُها في بلاد الشام وعاصمتها دمشق، وإما للدولة العباسية ومركزُها في العراق وعاصمتها بغداد.. أي أنها، باختصار، كانت تحت السيطرة.
وحتى حينما سيطر مسلمون غير عرب على السلطة في مصر وشيَّدوا فيها دولاً مستقلة (الطولونيون والإخشيديون والفاطميون والأكراد والمماليك)، فهَلَّا أشار لي أحدُكُم إلى إسهامات مصر في الحضارة العربية الإسلامية في ظل هذه الدول؟!
في الأعلى: جامع الأزهر
في الأسفل: مدينة دبي
قد يقول قائلٌ منكم إنَّ مصر عرفت الحضارة في العصر الفاطمي.. وهذا قد يبدو لأوَّل وَهْلة صحيحاً، إلا أنَّ كل ما فعله الفاطميون في مصر لا يتعدى النشاط العمراني تشبُّهاً بالخلافة العباسية في بغداد ومنافسةً لها.. وأنا أتعلَّم من عصرنا الحديث الذي أحيا فيه أنَّ العمران هو أسهل ما يكون.. ولكن ماذا فعل المصريون في ظل الحكم الفاطمي غير ذلك؟! فالأمر بالنسبة لي أشبه بما تفعلُهُ في عصرنا الحالي إمارةُ دبي، وقد تحوَّلت مدينة دبي إلى أهم مدينة عربية على الإطلاق في العمران والإستثمار الإقتصادي، الذي هو في الأصل إستثمار عالمي بقرار غربي، محدود ومشروط من قبل الغرب نفسه.. وهنا السؤال الأهم: ما هي إسهامات أهل دبي (وأهل دولة الإمارات كلها وأهل الخليج قاطبةً) في الحضارة الغربية حالياً، يعني: ماذا ابتكروا، ماذا اخترعوا، ماذا أبدعوا؟! فهل المال وحده قادر على أن يصنع حضارة؟! وبصورةٍ أوضح: ما هي إسهامات دبي (وأهل الخليج قاطبةً) في عالم الفكر والفلسفة وكافة العلوم الإنسانية: علم النفس وعلم الإجتماع وعلم الإقتصاد وعلم الآثار وهَلُمَّ جرّاً.. ما هي إسهاماتهم في الآداب: في اللغة والشعر والقصة والرواية والمسرحية... ما هي إسهاماتهم في الفنون: في الموسيقى والغناء والرسم والنحت والرقص والتمثيل والأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية والعروض المسرحية... ما هي إسهاماتهم في الإختراعات العلمية: في الطب، في الهندسة، في الإلكترونيات، في الصناعات على مختلف أنواعها... والأسئلة لا تنتهي.. أما الجواب الحاسم فهو: لا شيء على الإطلاق.
وهذا ما كان عليه حالُ مصر تماماً في ظل الدولة الفاطمية.. وإن قلتم لي: "دار الحكمة" (أي المكتبة التي أنشأها الفاطميون في القاهرة وقيل إنها كانت تضم عشرات الآلاف من الكتب على اختلاف مواضيعها العلمية والفلسفية والأدبية والدينية)، فأقول إنَّ "دار الحكمة" في القاهرة كانت نسخةً طبق الأصل من "بيت الحكمة" في بغداد، ومن ثَمَّ فإنَّ الكتب التي حَوَتْها "دار الحكمة" في مصر إنما كانت عبارة عن نُسَخٍ من مخطوطات الكتب الموجودة في بغداد أصلاً والتي أنتجتها الحضارة العربية الإسلامية في بلاد الشام وبغداد زمن الأمويين والعباسيين، ولم تنتجها مصر.. وفي المحصلة ما علينا إلا أن ننظر إلى الفارق الشاسع بين إسهام كلٍّ من "البيت" و"الدار" إنْ في حضارة العرب أو في حضارة العالم.. وفَهْمُكُم كافٍ.

الخلاصة:
علينا الإعتماد على أنفسنا في بلاد الشام والعراق
دون انتظار عودة مصر

خلاصة القول، أنني وأبناء جيلي والجيل الذي سبقني ما زلنا نراهن على عودة مصر، ونتوهَّم أنْ لن تقوم لنا قائمة – نحن العرب – إلا بعودتها.. ومن ثَمَّ، كلُّ شيءٍ مؤجل إلى أن تعود مصر..
كاريكاتير للفنان عيسى صبرا عام 2016
يُظهر أن لا وزن لمصر اليوم في القضايا العربية
أنا الآن أصبحتُ مع التمنِّي، ولكنني في الوقت نفسه ضد الرهان.. أتمنَّى أن تعود مصر، ولكنني لم أعد أراهن على عودتها.. فالتمنِّي ما زال موجوداً وسيظل، لكنَّ الرهان أسقطتُّه من حسابي كلياً.. لذا، ما علينا (في بلاد الشام والعراق، مركز الحضارة العربية الإسلامية التي علَّمت العالم) إلا أن نؤسس لعوامل نهضتنا الحضارية الراقية دون الرهان على أي دور لمصر، وهذا ما سأربِّي طِفْلَيَّ حسن ونسرين عليه، على عكس ما تربَّيْتُ أنا عليه.. وكفانا وضعاً لِيَدِنَا على خدِّنا منتظرين عودة مصر بلا طائل.

توفيق الحكيم
وأعتذر لأنني سأستشهد بالمثل المصري القائل: "يا مِسْتَنِّي السَّمْنَة من حليب النملة"، ذلك أنَّ المصريين مرتاحون جداً جداً لأنَّ عبد الناصر رحل عنهم وإلى الأبد (وهم أحرار في ذلك).. وأعود لأذكِّركم بما قاله توفيق الحكيم:
"إنَّ فكرة الزعامة على العالم العربي هي التي أَضَاعَتْنَا جميعاً، وهي التي استحوذت على فكر عبد الناصر وجعلته قوةً مدمِّرةً لنفسه ولمصر وللعرب".
والأهم هو في ما أضافه توفيق الحكيم:
"وهو درسٌ يجب أن نعيه جيداً لمقاومة كل مَنْ تراوده نفسُهُ على زعامة العرب والسيطرة عليهم بشخصه وبإرادته وأفكاره".
سيد قطب أثناء محاكمته
وأُضِيْفُ عليه ما قاله سيد قطب (الذي يحظى هو الآخر بشعبية كبيرة في مصر) أثناء محاكمته عام 1966 بتهمة إنشاء تنظيم سري هَدَفُهُ اغتيال عبد الناصر وإحداث إنقلابٍ على نظامه.. لقد وجَّه قاضي المحكمة التهمة إليه قائلاً: "إنك متهمٌ بمحاولة قتل الرئيس".. فانظروا ملياً إلى ما كان عليه الجواب، إذ قال سيد قطب:
"إنَّ قَتْلَ عبدالناصر هدفٌ تافه، إننا نهدف لبناء أُمَّة لا يَخْرُجُ فيها مِثْلُ عبدالناصر".
وهذا ليس رأياً شخصياً لتوفيق الحكيم أو لسيد قطب، بل هو رأي غالبية المصريين.. فالهجوم المستميت على عبد الناصر من قبل المصريين أنفسهم ومن داخل مصر نفسها، والقائم على قدمٍ وساق على مدى نصف قرن منذ رحيله، ليس دليلاً على أنَّ الشعب المصري يريد عودة عبد الناصر من جديد فيتم الهجوم عليه باستماتةٍ من قِبَلِ حَفْنَةٍ من المصريين بغية الحؤول دون ذلك.. لا بل على العكس من ذلك تماماً، فهذا الهجوم المستميت والمتواصل ليس سوى الدليل الأكبر والبرهان الأَوْكَد على أنَّ غالبية المصريين – ومنذ نصف قرن – يقاومون بكل ما أوتوا من قوةٍ إِحتمالَ ظهورِ عبد الناصر آخَرَ يعمل على أنْ تلعب مصر دورها الطبيعي والإستراتيجي في الوطن العربي مرةً أخرى..
وختاماً، أتمنى من أعماق قلبي ومن صميم وجداني وبكل جوارحي أن أكون مخطئاً في ما أبديتُهُ من رأي في هذا المقال المطوَّل.

(بيروت – أيلول/ سبتمبر 2018 – شباط/ فبراير 2019)


موضوع ذو صلة:






 x

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق