أدى إدخال العنصر الفارسي ثم التركي ثم
الكردي إلى جيش الخلافة العباسية إلى سيطرة هذه العناصر على الخلافة نفسها، مع
الحرص الشديد من قبل كلٍّ من هؤلاء الفرس والأتراك والأكراد على إبقاء الخليفة
العباسي في منصبه كصورة شكلية نظراً لما يمثِّله من رمزٍ ديني يمت بصلة القرابة
إلى الرسول العربي الكريم، واستخدامه كغطاء لتسلُّط هذا العنصر الغريب على بلاد
العرب ونَهْبِ خيراتها، وادعائهم بأنهم يحكمون بإسم الإسلام...
إقرأ الموضوع كاملاً في الأسفل
جيشُ
العراقِ متى يعود؟ (3 من 5)
ضغطوا على الخلافة العباسية بميليشيات شيعية
السلاجقة
السُنَّة اشترطوا على المسترشد
عدم
إنشاء جيشٍ عراقي!
حسين أحمد صبرا
أدى إدخال العنصر الفارسي ثم التركي ثم الكردي إلى جيش
الخلافة العباسية إلى سيطرة هذه العناصر على الخلافة نفسها، مع الحرص الشديد من
قبل كلٍّ من هؤلاء الفرس والأتراك والأكراد على إبقاء الخليفة العباسي في منصبه
كصورة شكلية نظراً لما يمثِّله من رمزٍ ديني يمت بصلة القرابة إلى الرسول العربي
الكريم، واستخدامه كغطاء لتسلُّط هذا العنصر الغريب على بلاد العرب ونَهْبِ
خيراتها، وادعائهم بأنهم يحكمون بإسم الإسلام (مثلما أدى إدخال العنصر الأرمني ثم
الكردي إلى الجيش الفاطمي إلى زوال الخلافة الفاطمية في مصر).. حتى أن الخليفة من
هؤلاء، إذا ما اشتدَّت عربدة أولئك الغزاة الغرباء الملتحفين بالإسلام، كان يهدِّد
بترك دار الخلافة والخروج من بغداد، فيسارعون إلى استرضائه والنزول عند رأيه،
مخافة أن يثور ضدهم عامة الناس من أهل العراق ويطردوهم من البلاد..
وقد ذكرنا سابقاً أنَّ البويهيين الفرس المتشيِّعين
سيطروا سيطرةً مطلقة على العراق لمدة 110 سنوات (من سنة 334ه/ 945م وحتى سنة 447ه/ 1055م) بعد أن سيطروا على بلاد فارس
وخراسان، وأصبح جيشهم الذي حكموا به العراق طوال هذه الفترة مكوَّناً من الفرس
الديلم (ومعظمهم شيعة) ومن الأتراك (ومعظمهم من السُنَّة) ومعهم بعض البدو العرب
والأكراد.. وقبيل زوال دولة البويهيين قَوِيَ نفوذُ أحد كبار القادة العسكريين
الأتراك، وهو من شيعة خراسان وإسمُهُ أرسلان ولقبُهُ البساسيري، وقد عَلِمَ
الخليفةُ العباسي القائم بأمر الله أنَّ البساسيري يخطط للإطاحة به ومن ثم إعلان
الولاء للخليفة الفاطمي في مصر (حدث ذلك فعلاً بين عامي 450ه و451ه).. واستطاع
البساسيري عام 447ه/ 1055م أن يستقطب إلى صفوفه معظم الأتراك ممَّن هم ضمن الجيش
العراقي بعد أن أسال لعابهم بأن أغراهم بنهب دار الخلافة.. وبما أنَّ الخليفة
العباسي لم يكن يملك جيشاً خاصاً به فإنه قام بمراسلة السلطان السلجوقي
طُغْرُلْبَك (أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سُلجوق بن نعاق، وهو أول سلاطين
السلجوقية) يستنجد به ضد انقلاب البساسيري المرتقب، فاستجاب طغرلبك على الفور ودخل
بغداد في العام نفسه (447ه) وقضى على آخر ملوك بني بويه الملك الرحيم (أبو نصر
فيروز بن أبي كاليجار).. مع الإشارة إلى أنَّ دولة السلاجقة الأتراك (439ه- 552ه/
1038م- 1157م) نشأت بادىء الأمر على حساب دولة البويهيين في أذربيجان وبلاد الروم
(تركيا حالياً) ثم خراسان وبلاد فارس، إلى أن امتدَّت إلى العراق ثم بلاد الشام، وقد
حاولت التمدُّد إلى مصر وفشلت..
باختصار، حَكَمَ السلاجقةُ الأتراكُ السُنَّةُ العراقَ
بقوَّتهم العسكرية وأبقوا على الخلفاء العباسيين مجرَّد واجهة دينية شكلية يختبئون
وراءها، تماماً كما فعل مَنْ سبقهم من الغزاة، مع الحؤول على طول الخط دون أن تكون
للخليفة العباسي أيُّ قوة عسكرية خاصة به، وذلك حفاظاً على سيطرتهم المطلقة على
كافة الأمور، وهي السيطرة التي تؤمِّن لهم نهب ثروات البلاد والتنعُّم بأُبَّهة
السلطة.. وقد وصلت المعاملة المهينة التي تعامَل بها السلاجقة الأتراك مع الخلفاء
العباسيين إلى حد أنَّ السلطان السلجوقي ملكشاه، الذي بلغت قوة الدولة السلجوقية
في عهده أقصى مداها، أراد أن تكون بغداد له لوحده، فما كان منه إلا أن أَمَرَ
الخليفةَ العباسيَّ المقتديَ بأمر الله في شهر رمضان من عام 485ه/ 1092م بالخروج
من دار الخلافة والرحيل فوراً عن بغداد كلياً ونهائياً إلى أي مكانٍ آخر يشاؤه،
فأرسل إليه الخليفة أن يمهله شهراً، فأجابه ملكشاه قائلاً: "ولا ساعة
واحدة".. فأرسل الخليفة يتوسَّل إليه أن يمهله عشرة أيام، فوافق ملكشاه على
مضض وبعد تمنُّعٍ شديد.. وصودف أن خرج ملكشاه إلى الصيد فأصابته حُمَّى شديدة أودت
بحياته قبل مرور الأيام العشرة..
وهكذا، ظلت الخلافة العباسية نحو 70 عاماً قابعةً تحت
التسلُّط السلجوقي دون جيشٍ يعيد إليها قوَّتها لتستعيد بها أمجادها وعصرها
الذهبي، إلى أن جاء الخليفة العباسي المسترشد بالله عام 512ه/ 1118م، فاستغلَّ
الصراع الدامي على السلطة والذي نشأ بين أبناء السلطان السلجوقي ملكشاه منذ وفاته،
ثم بين الأبناء والأحفاد.. فاقتنص المسترشد بالله فرصة ضعف دولة السلاجقة
وتفكُّكها وأنشأ جيشاً خاصاً بالخلافة العباسية (وكان معظم أفراده وقادته من
الأتراك طبعاً بالإضافة إلى بعض البدو العرب والأكراد).. قبل ذلك كان آخر خليفة
عباسي انفرد بتدبير الجيوش والأموال هو الخليفة الراضي بالله، الذي توفي عام 329ه/
940م (أي قبيل سيطرة البويهيين على الحكم في بغداد بخمس سنوات)، والآن جاء الخليفة
العباسي المسترشد بالله بعد 178 عاماً ليُعيد تدبير الجيوش والأموال إلى العباسيين
العرب من جديد، وعاد الخليفة يشن الحروب ويدافع عن بلاده ضد المعتدين ومثيري الفتن
والإضطرابات، وهذا ما لم يَرُق للسلاجقة بكل تأكيد، فكيف كان ردُّهم؟!
إنَّ أهم ما فعله السلاجقة هو استخدامهم ميليشياتٍ
عربيةً شيعيةً في إثارة الشغب والفتن والإضطرابات داخل العراق وفي حبك المؤامرات
ضد الخلافة العباسية السُنِّيَّة للضغط عليها وابتزازها وإضعافها وإفشال محاولاتها
الحثيثة لاستعادة قوَّتها، وكان يتزعَّم هذه الميليشيات الشيعية -زمن المسترشد-
الأمير دُبَيْسُ بنُ صَدَقة بنُ منصور بنُ دُبَيْس بنُ علي بنُ مَزْيَد الأسدي،
الذي كان يعتمد على مقاتلين من العرب العراقيين الشيعة إضافةً إلى الأكراد
والأتراك.. وكان دُبَيْسُ هذا عبارة عن زعيم مرتزقةٍ من قُطّاعِ طُرُقٍ ونهّابين
وسفّاكي دماء ومستبيحي أعراض، وقد كان لهذه العائلة باعٌ طويل في المهام الموكلة
إليها حيث يعود تاريخ استخدامها إلى زمن البويهيين الفرس حيث استُغِلَّت للأغراض
نفسها، وقد شكَّلت دويلةً داخل الدولة العباسية استغلَّها زمنَ المسترشد السلطانُ
السلجوقي محمود بن محمد بن ملكشاه، ثم أخوه السلطان مسعود.. وكانت السنوات الـ16
التي قضاها المسترشد في الخلافة (512ه- 529ه/ 1118م- 1134م) حافلةً بالأحداث
والصدامات والصراعات التي خاضها السلاجقة وأتباعهم من الميليشيات الشيعية ضده،
انتهت بحربٍ عسكرية خاضها المسترشد ضد السلطان السلجوقي مسعود عام 529ه/ 1134م،
انتهت بهزيمة المسترشد (بعد فرار عسكره الأتراك) ووقوعه أسيراً، مع الإشارة إلى
أنَّ دُبَيسَ بنَ صدقة هو الذي ورَّط الخليفةَ فيها.. وبعد أقل من شهرين على
اعتقاله قام مسعود بتدبير اغتيال المسترشد وهو في الأسر بواسطة الشيعة الإسماعيلية
الحشاشين (عام 529ه).. واللافت هنا أمران:
الأمر الأول، أنَّ السلطان السلجوقي مسعود سعى إلى عقد
صلحٍ مع المسترشد قبل أن يقوم باغتياله، وكان من أبرز شروط مسعود على الخليفة
العباسي هو ما أورده المؤرِّخ العربي إبن الأثير في "الكامل في
التاريخ"، وهو "أن لا يعودَ (المسترشدُ) يَجْمَعُ العساكرَ وأنْ لا
يخرُجَ من داره، فأجابَ (المسترشدُ، أي وافَقَ) السلطانَ (مسعوداً) على ذلك"،
أي بمعنى أنَّ مسعوداً اشترط على المسترشد حَلَّ الجيش العباسي، والمسترشد –الواقع
في الأسر- وافق على هذا الشرط مُكرَهاً.. وبعد اغتيال المسترشد فإنَّ السلطان
مسعود اشترط على الخليفة العباسي الجديد الراشد بالله –إبن المسترشد- الإمتناع عن تشكيل جيشٍ عباسي ونهاه، أي مسعود،
عن محاربته وإلا يكون قد خَلَعَ نفسَه من الخلافة، وقد دفع مسعودٌ الراشدَ بالله
إلى أن يكتب هذا الشرط بخط يده ويوقِّع عليه، ومما جاء فيه: "إني متى
جَنَّدْتُ (أي شكَّلتُ جيشاً) أو خَرَجْتُ (للحرب) أو لَقِيْتُ (أي واجَهْتُ)
أحداً من أصحاب السلطان (مسعود) بالسيف فقد خَلَعْتُ نفسي من الأمر (أي من
الخلافة)".. وبالفعل، ما أن تصدَّى الراشد لمحاولة مسعود الدخول إلى بغداد
حتى قام الأخير بخلع الراشد من منصبه في ذي القعدة من عام 530ه/ 1135م، أي بعد
عامٍ كاملٍ من توليه الخلافة.
الأمر الثاني، أنَّ مسعوداً قام بقتل زعيم الميليشيات
الشيعية دُبَيْسِ بنِ صَدَقة بعد 28 يوماً على قتله المسترشد بالله.. والمؤرَّخ
العربي إبن الجوزي، الذي كان حينها صبياً، وقد عاش طوال عمره في بغداد، ذكر في
"المنتظَم في تاريخ الملوك والأمم" ما يلي: "ووصَلَ الخبرُ (مطلع
عام 530ه) بقتل دُبَيس، فَتَعْجَبُ مِنْ تقارُبِ موتِ المسترشد وقَتْلِ دبيس،
وتَفَكَّروا في أنَّ قَتْلَ المسترشد كان سَبَبَ قَتْلِهِ، لأنهم إنما كانوا (أي
السلاجقة الأتراك) يتركونه (أي يتركون دبيساً حياً) ليكونَ في وجه
المسترشد".. ولاحقاً ينقل إبنُ الأثير في "الكامل" هذا التحليل
السياسي عن إبن الجوزي ويصيغه بشيءٍ من التوسع، فهو بعد أن يوضِّح أنَّ دبيساً
لَزِمَ بابَ السلطان مسعود، أي كان طوعَ أمره، يقول عن مقتله: "ومثلُ هذه
الحادثة تقع كثيراً وهو قُرْبُ موتِ المتعاديين، فإنَّ دبيساً كان يعادي المسترشدَ
بالله ويكره خلافتَه ولم يكن (أي دبيس) يعلم أنَّ السلاطين (السلاجقة) إنما كانوا
يُبقون عليه (حيّاً) ليجعلوه عِدَّةً (أي سلاحاً) لمقارنة (أي محاربة) المسترشد،
فلمّا زالَ السببُ (أي قُتل المسترشد) زال المسبِّب".
أما المفاجأة الكبرى فتكمن في ما فعله عماد الدين زنكي
بن آقْسُنْقُر البرسقي مع دُبَيْس بن صَدَقة.. لقد فعل دبيس الأعاجيب في العراق
وخاصةً طوال فترة خلافة المسترشد، ولم تنفع مطالبة المسترشد سلاطينَ السلاجقة
بإخراج دبيس من العراق، إلى أن دخل الأخير بغداد عام 516ه/ 1122م وعاث فيها فساداً
وقتلاً ونهباً، ما أدَّى إلى وقوع الحرب بينه وبين الخليفة عام 517ه/ 1123م هُزِمَ
فيها دبيس وفرَّ هارباً عند الصليبيين وأَطْمَعَهُم باحتلال حلب، لكنهم فشلوا
بعدما تصدَّى لهم عماد الدين زنكي.. وما يهمنا هنا أنَّ عماد الدين زنكي، الذي
كانت عينه على العراق منذ ذلك الحين (وهو من عائلة من المماليك الأتراك، وهو مؤسس
الدولة الزنكية التي قامت لاحقاً على انقاض الدولة السلجوقية في الموصل والجزيرة
وبلاد الشام)، كان في تلك الفترة أمير الموصل وشارك إلى جانب المسترشد في الحرب ضد
دبيس.. وقد أدَّت هذه الحرب وما تلاها من أمور إلى أن يَكُنَّ زنكي لدبيس عداوةً شديدة
حتى بات يطلب رأسَه، وخاصةً أنَّ السلاجقة حاولوا عزل زنكي عن الموصل وتسليم
إمارتها إلى دبيس.. إلى أن وقع دبيس في الأسر عند حاكم دمشق طُغْتِكِين سنة 525ه/
1130م، ووصل الأمر بزنكي إلى حد أنه هدَّد باحتلال دمشق إن لم يُسَلِّمْهُ
طُغْتِكينُ دبيساً.. وفي النهاية سلَّم طغتكينُ دبيساً إلى عماد الدين زنكي، وهنا
كانت المفاجأة، ونترككم مع ما أورده إبن الأثير في "الكامل" : "ففعل زنكي معه (أي مع دبيس) خلافَ ما
ظُنَّ، وأحسنَ إليه وحَمَلَ له الأقواتَ والسلاحَ والدوابَ وسائرَ أمتعة الخزائن،
وقدَّمه حتى على نفسه وفعل معه ما يفعل مع أكابر الملوك".
أرأيتم؟! فعماد الدين زنكي، الساعي إلى تأسيس دولة على
أنقاض دولة السلاجقة، لم يكن ليستغني عن مرتزقةٍ من شيعة العراق على شاكلة دبيس بن
صدقة، إذ رأى أن لا بد له من استخدامهم بدوره لاحقاً في إضعاف الخلافة العباسية
العربية السنِّية، ليس لأسبابٍ دينية مذهبية وإنما لأسبابٍ سياسية عرقيَّة سلطوية
تَوَسُّعية.. أوليس هذا ما تفعله إيران اليوم عبر مرتزقتها الشيعة (والسُنَّة من
الإخوان المسلمين والقاعدة) في العراق ولبنان وسوريا وفلسطين واليمن والبحرين
والسودان وفي غيرها من بلاد العرب؟!
(آب/ أغسطس
2014)
الحديث التالي:
الحديث السابق:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق