2014/09/01

جيشُ العراقِ متى يعود؟ (5 من 5)/ إبن العَلْقَمي أقنع المستعصم بحل الجيش العراقي تمهيداً لدخول التتار إلى بغداد!



مات المستنصر بالله، الخليفة العباسي قبل الأخير، عام 640ه/ 1242م تاركاً جيشاً جرّاراً لا تملكه إلا الإمبراطوريات الكبيرة، بلغ تعداده 100 ألف مقاتل.. ومع وجود مثل هذا الجيش الضخم كان من سابع المستحيلات على التتار أن يدخلوا بغداد وإلا لتحوَّلت إلى مقبرةٍ لهم دون أدنى شك.. وقد حاول التتار دخول بغداد عن طريق بعقوبة عام 643ه/ 1245م، فتصدَّى لهم جيشُ الخلافة العباسية وهزمهم هزيمةً نكراء، الأمر الذي أشرنا إليه سابقاً..

إقرأ الموضوع كاملاً في الأسفل


جيش العراق متى يعود؟!
دراسة تاريخية
عن جيش العراق أواخر العصر العباسي
تأليف: حسين احمد صبرا
(2014)





جيشُ العراقِ متى يعود؟ (5 من 5)
إبن العَلْقَمي أقنع المستعصم
بحل الجيش العراقي
تمهيداً لدخول التتار إلى بغداد!


حسين أحمد صبرا
مات المستنصر بالله، الخليفة العباسي قبل الأخير، عام 640ه/ 1242م تاركاً جيشاً جرّاراً لا تملكه إلا الإمبراطوريات الكبيرة، بلغ تعداده 100 ألف مقاتل.. ومع وجود مثل هذا الجيش الضخم كان من سابع المستحيلات على التتار أن يدخلوا بغداد وإلا لتحوَّلت إلى مقبرةٍ لهم دون أدنى شك.. وقد حاول التتار دخول بغداد عن طريق بعقوبة عام 643ه/ 1245م، فتصدَّى لهم جيشُ الخلافة العباسية وهزمهم هزيمةً نكراء، الأمر الذي أشرنا إليه سابقاً..
وحَدَثَ، قبل محاولة التتار دخول بغداد وسَحْقِهم من قِبَل جيش الخلافة بعامٍ واحد، أي عام 642ه/ 1244م، أنْ عيَّن المستعصمُ بالله وزيراً إسمُه مؤيّد الدين بن العَلْقَمي، وهو شيعي إثنى عشري، وكان قبلها متولياً منصب الأستادارية، أي كان أستاذ دار الخلافة، وهو منصب بيروقراطي بتعبير عصرنا الحالي.. وبعدما أصبح وزيراً بات شيئاً فشيئاً يمسك بالأمور كافة ، في ظل ضعف شخصية المستعصم واقتناعه بكل ما كان يشير عليه ابنُ العَلْقَمي هذا.. وما أن حلَّ عام  648ه/ 1250م حتى استطاع ابنُ العَلْقَمي إقناع المستعصم بحلّ جيش الخلافة وتسريح معظم عساكره، وكانت حجَّته في ذلك مهادنة التتار ومصانعتهم وبذل الأموال إليهم، فلا تعود معها حاجة إلى هذا العديد الضخم من الجنود!! ورغم أنَّ الخليفة المستنصر بالله كان أيضاً يصانع التتارَ ويهاديهم، على حد ما أورده اليونيني في "ذيل مرآة الزمان"، إلا أنه بنى جيشاً قوامُهُ 100 ألف، "وكان منهم أمراء أكابر يُطلَق على كلٍّ منهم لفظ الملك".. ثم يضيف اليونيني: "فلما ولي المستعصم أُشير عليه بِقَطْعِ (أي تسريح) أكثر الجند وأنَّ مصانعةَ التترِ وحَمْلَ المالِ إليهم يحصل به المقصود، ففعل ذلك وقلَّل من الجند. وكاتَبَ ابنُ العَلْقَمي التترَ وأطمعهم في البلاد وأرسل إليهم غلامَهُ وأخاهُ وسهَّل عليهم مُلْكَ العراق وطلب منهم أن يكون نائبهم في البلاد، فوعدوه بذلك...".
دعونا هنا نتوقَّف عند أمرٍ بالغ الدلالة حَدَثَ بعد عامٍ واحدٍ على هزيمة التتار في بغداد وقبل أربع سنوات من حل الجيش العراقي، إذ أرسل التتار رُسُلاً من قِبَلهم إلى بغداد قابلوا الوزير ابن العَلْقَمي، ولم يُعرَف ما دار بينهم.. هذا ما قرأناه في كتاب المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي في كتابه "النجوم الزاهرة" حين الحديث عن أحداث عام 644ه/ 1246م، فيذكر ما يلي: "وفيها (أي سنة 644ه) قَدِمَ رسولانِ من التتار إلى بغداد، أحدُهما من بَرَكة خان، والآخر من باجو (أو باجُونُوين/ أو بايجو)، فاجتمعا بالوزير مؤيد الدين ابن العَلْقَمي، فتَغَمَّتْ على الناس بواطنُ الأمور".
لا شك أن خيوط المؤامرة على الدولة العربية العباسية السُنِّية ما بين ابن العَلْقَمي والتتار قد بدأت منذ ذلك الحين، وتتمثَّل في تمكين التتار من إزالة الدولة العباسية، على أمل أن يساعد التتارُ ابنَ العَلْقَمي في إقامة دولة شيعية في بغداد على أنقاضها.. وكان الحائل الوحيد دون نجاح هذه المؤامرة هو وجود جيشٍ جرّار تعداد عناصره 100 ألف مقاتل..
بعد ذلك بأربع سنوات، أي عام 648ه/ 1250م، نجح مخطَّط ابن العَلْقَمي بأن استطاع إقناع الخليفة المستعصم بالله بإصدار قرارٍ بتسريح الغالبية العظمى من أفراد جيش الخلافة، حتى أصبح عديدهم ما دون العشرين ألفاً، وقد أدى ذلك إلى أن يثور العسكر احتجاجاً على قطع أرزاقهم، لكن دون جدوى، ما جعلهم يستعطون في الشوارع وعلى أبواب المساجد، وكما قال ابن كثير في "البداية والنهاية": "وبقيَّةُ الجيش كلّهم قد صُرفوا عن إقطاعاتهم حتى استَعْطَى كثيرٌ منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأَنشد فيهم الشعراءُ قصائدَ يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله". وحمَّل جميعُ المؤرِّخين السُنَّة ابنَ العَلْقَمي السبب في ذلك، ومنه قول الذهبي في "دول الإسلام": "وأما بغدادُ فضَعُفَ دَسْتُ الخلافة، وقطعوا أَخبازَ الجُنْدِ الذين استنجد بهم المستنصر، وانقطع رَكْبُ العراق مدةً، كلُّ ذلك من عمل الوزير ابن العَلْقَميّ الرافضي، جَهَدَ في أَنْ يزيلَ دولةَ بني العباس ويقيمَ عَلَوِيّاً (أي ليأتي بشيعيٍّ خليفةً)، وأخذ يُكاتب التتار ويراسلونه والخليفة غافلٌ لا يطَّلع على الأمور ولا له حِرْصٌ على المصلحة".
إلى هذا الحد كان الخليفة المستعصم بالله ضعيف الشخصية وليِّناً ومنقاداً، فالذهبي يصف المستعصمَ في كتابه "دول الإسلام" بأنه "كان فيه لِيْنٌ وقِلَّة معرفة"، كما يصفه في كتابه الآخر "تاريخ الإسلام" بأنه "كان يلعب الحَمَام، ويُهمل أمرَ الإسلام، وابنُ العَلْقَمي يلعب به كيف أراد، ولا يُطلعه على الأخبار، وإذا جاءته نصيحةٌ في السر أَطْلَعَ عليها ابنَ العَلْقَمي ليقضي الله أمراً كان مفعولاً".. وإليكم قول أبي الفداء في "المختصر في أخبار البشر": "وكان عبد الله المستعصم ضعيفَ الرأي، فاستبدَّ كبراء دولته بالأمر، وحسَّنوا له قطع الأجناد وجمع المال، ومداراة التتر، ففعل ذلك وقطع أكثر العساكر".. وأيضاً: ""وكان هذا المستعصم ضعيف الرأي، قد غلب عليه أمراءُ دولته لسوء تدبيره".. وقول إبن كثير في "البداية والنهاية": " كان فيه لينٌ وعدمُ تَيَقُّظٍ ومحبةٌ للمال وجَمْعِهِ".. وإبن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": "وكان المستعصم خليّاً من الرأي والتدبير".. واليونيني في "ذيل مرآة الزمان": " ولم يكن على ما كانا (والدُهُ وجَدُّه) عليه من التيقُّظ وعلوّ الهِمَّة".. وأيضاً: " وكان المستعصم بالله قليل المعرفة والتدبير والتيقُّظ، نازلَ الهِمَّة محبّاً لجمع المال مهملاً للأمور يتَّكل فيها على غيره ويُقْدم على فعل ما يُسْتَقْبَح ولا يناسب منصبه"..
لقد ركن المستعصم إلى وزيره ابن العَلْقَمي حتى "حصل له من التعظيم والوجاهة أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء"، على حد تعبير إبن كثير.. و"صار إذا جاء خبرٌ منهم كَتَمَهُ عن الخليفة، ويُطالِعُ بأَخبارِ الخليفةِ التتارَ، إلى أن حصل ما حصل"، كما ذكر اليونيني.. حتى أنَّ الشعراء راحوا يهجون المستعصم لركونه إلى ابن العَلْقَمي في أمور البلاد كافةً، نذكر منها هذين البيتين اللذين قرأناهما في "السلوك لمعرفة دول الملوك" للمقريزي: يا فِرْقَةَ الإسلامِ نُوحوا واندبوا/ أسفاً على ما حَلَّ بالمستعصِمِ/ دَسْتُ الوزارةِ كان قبلَ زمانِهِ/ لابنِ الفُراتِ فصارَ لابنِ العَلْقَمِي.
وكما تلاحظون فإنَّ المؤرخين السُنَّة من العرب والمسلمين أجمعوا على تحميل إبن العَلْقَمي مسؤولية حل الجيش العراقي واتهموه بالتآمر مع التتار لدخول بغداد لإزالة الدولة السُنِّية وإقامة دولةٍ شيعية، وقد استقوا معلوماتهم ممَّن عاصروا كارثة سقوط بغداد من سياسيين وعسكريين وفقهاء وشعراء وإداريين ومن عامة الناس، وهو كلامٌ كان يجري على كافة الألسنة، حتى صاغه بعض الشعراء في أبياتٍ شعرية، منها ما قرأناه في "ذيل كتاب الروضتين" لأبي شامة، الذي عاصر تلك الفترة وتوفي بعد دخول التتار إلى بغداد بعشر سنوات، إذ يقول: " فمِنْ أحسن ما أُنشد في ذلك (أي في مؤامرة ابن العَلْقَمي مع التتار في خراب بغداد وإبادة أهلها) بيتٌ لإبن التعاويذي: بادَتْ وأَهْلوها معاً، فبيوتُهُمْ/ ببقاء مولانا الوزيرِ خَرابُ"..
في المقابل، وحدَهم المؤرِّخون الشيعة أفاضوا في الدفاع عن إبن العَلْقَمي وتبرئة ساحته، وأشهرهم المؤرِّخ إبن الطُقْطُقي في كتابه "الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية"، إذ يقول ص333 (طبعة دار صادر- بيروت- بدون تاريخ): "وكان أصحابه (أي أصحاب المستعصم) مُسْتَوْلِين عليه وكلُّهم جُهّالٌ من أراذل العوامّ، إلا وزيره مؤيّد الدين محمد بن العَلْقَمي، فإنَّه كان من أعيان الناس وعقلاء الرجال، وكان مكفوفَ اليد مردودَ القول، يترقَّبُ العَزْلَ والقَبْضَ (أي القبض عليه) صباحَ مساء".. ثم يقول ص334: "وكان وزيره مؤيّد الدين بن العَلْقَمي يعرف حقيقة الحال في ذلك (أي في نية التتار الدخول إلى بغداد) ويُكاتبه بالتحذير والتنبيه، ويُشير عليه بالتيقُّظ والإحتياط والإستعداد، وهو (أي المستعصم) لا يزداد إلا غفولاً. وكان خواصُّهُ (أي خواصّ المستعصم) يوهمونه أنه ليس في هذا كبيرُ خَطَرٍ ولا هناك محذور، وأنَّ الوزير إنما يُعَظِّم هذا ليَنْفُقَ سُوقُهُ ولتَبْرُزَ إليه الأموالُ ليُجَنِّدَ بها العساكر فيقتطع منها لنفسه".. أيضاً يقول الطُقْطُقي ص338: "وكان خواصّ الخليفة جميعهم يكرهونه (أي إبن العَلْقَمي) ويحسدونه، وكان الخليفة يعتقد فيه ويحبُّه، وكَثُرُوا عليه عنده فكفَّ يدَهُ عن أكثر الأمور، ونَسَبَهُ الناسُ إلى أنه خامَرَ (أي تآمر)، وليس ذلك بصحيح. ومن أقوى الأدلة على عدم مُخَامَرَتِهِ سلامتُهُ في هذه الدولة، فإنَّ السلطان هولاكو لمّا فتح بغداد وقَتَل الخليفة سَلَّمَ البلدَ إلى الوزير وأحسن إليه وحَكَّمَهُ. فلو كان خامر على الخليفة لَمَا وقع الوثوق إليه".
 لن نناقش ما قاله الطُقْطُقي.. فقط نريد أن نشير إلى أنَّ الطُقْطُقي لا يلبث أن يكذِّب نفسَه بنفسه.. أوليس هو القائل قبل قليل إنَّ ابن العَلْقَمي لم يعد يقوم إلا بمهامَّ بسيطة وشكلية، ذلك أنَّ الخليفة المستعصم قد كفَّ يَدَه عن أكثر الأمور، أي لم يبقَ بيده سوى أقل الأمور! وأن يكون بيد وزيرٍ ما أقلُّ الأمور فإنَّ ذلك معناه أنَّ الأمور التي بيده هي أمورٌ بسيطة وشكلية، وبالتالي فهو وزيرٌ شكلي، لا يملك بيده ربطاً ولا حلاً..  ثم لا يلبث إبن الطُقْطُقي أن يكذِّب نفسَهُ بنفسه، إذ نراه يروي في أعقاب ذلك مباشرةً ما يناقض قوله السابق تماماً، إذ ينقل إبنُ الطُقْطُقي ما حدَّثه به شخصياً إبنُ أخت الوزير العَلْقمي، فيقول في الصفحة نفسها (ص338): "حدَّثني كمالُ الدين أحمد بن الضحّاك، وهو إبن أخت الوزير مؤيد الدين ابن العَلْقَمي، قال: لمّا نزل السلطانُ هولاكو على بغداد أرسل يطلب أن يَخْرُجَ الوزيرُ (إبنُ العَلْقَمي) إليه، قال (إبنُ الضحّاك، وهو إبن أخت العَلْقَمي كما سبق): فبعث الخليفةُ فطلب الوزيرَ (إبنَ العَلْقمي) فحضر عنده، وأنا (أي إبن الضحّاك) معه، فقال له الخليفة: قد أَنْفَذَ السلطانُ (هولاكو) يطلبكَ وينبغي أن تخرُجَ إليه. فخَرَجَ الوزيرُ من ذلك (أي رَفَضَ) وقال: يا مولانا إذا خَرَجْتُ (أنا) فَمَنْ يُدبِّر البلدَ ومَنْ يتولَّى المهامّ؟".
إذاً، ووفق شهادة إبن أخت العَلْقمي، كان الوزيرُ ابنُ العَلْقمي يدبِّر كلَّ أمور البلد ويُمسك بيده زمامَ كلِّ الأمور، إلى درجة أنه لم يوافق على الخروج من بغداد لفترة قصيرة لمقابلة هولاكو الذي بات موجوداً حالياً في بغداد نفسها وعلى بعد مئات الأمتار من دار الخلافة، خشية أن يصبح البلد (طوال هذه الفترة القصيرة) بلا رأسٍ ولا مدبِّرٍ ولا مدير! فكيف يتَّفق ذلك مع قول ابن الطقطقي من أنَّ الخليفة المستعصم كفَّ يدَهُ عن أكثر الأمور؟! وقصدُهُ من ذلك تبرئة إبنَ العَلْقَمي من تسريح معظم عناصر الجيش العراقي زَمَنَ آخر الخلفاء العباسيين المستعصم بالله، في تآمرٍ واضحٍ مع التتار والمغول، أعداء العرب والإسلام!
***
أخيراً، نريد أن نختم بما يلي: إنَّ الحصار الأميركي للعراق لمدة 12 عاماً، منذ العام 1991 وحتى احتلال العراق عام 2003، لم يكن الغرض منه إسقاط نظام صدام حسين، بل كان الغرض منه إسقاط الجيش العراقي بغية التمكُّن من إسقاط العراق نفسه وإدخال إيران إليه.. إذ لم يكن أسهل على أميركا من تدبير عملية انقلابٍ على صدام حسين دون حصارٍ ولا من يحزنون، إلا أنَّ ذلك كان سيعني بقاء جيش العراق قوياً، وطنياً، وحدوياً، عروبياً، معادياً للفرس والتفريس، وبالتالي بقاء العراق الدولة والمجتمع.. وحدَه الحصار اللئيم على مدى كل تلك السنين فَتَّ بعضد الجيش والمجتمع معاً حتى بات إسقاطُ العراق وإدخال إيران إليه أمراً سهلاً، يشبه تماماً السهولة التي دخل بها التتار إلى العراق بعد حَلِّ جيشه قبل نحو 750 عاماً بمؤامرة الوزير إبن العَلْقَمي ليس غيره!
(آب/ أغسطس 2014)

الحديث السابق:

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق