2017/03/23

كتاب "حزب الله والحشَّاشون"/ الحشَّاشون مرتزِقة غِبَّ الطلب (18): الحشَّاشون مرتزقة بيد المماليك.



في النصف الثاني من القرن الهجري السابع بات الحشَّاشون مرتزقةً بيد المماليك، وذلك بعدما قضى المغول على الحشَّاشين في إيران وقوَّضوا قلاعهم وحصونهم في بلاد الشام. يقول القلقشندي: "ثم انتَمُوا إلى ملوك مصر في أيام الظاهر بِيْبَرْس. واشتُهروا باسم الفَداوِيَّة لمفاداتهم بالمال على مَنْ يَقتلونه. وقد ذكر (إبنُ فضل الله العمري) في "مسالك الأبصار" نقلاً عن مقدَّمهم مبارك بن عُلوان: أنَّ كلَّ مَنْ مَلَك مصرَ كان مَظْهَراً لهم، ولذلك يَرَوْنَ إتلاف نفوسهم في طاعته لِما ينتقلون إليه من النعيم الأكبر في زعمهم. ورأيتُ نحو ذلك في "أساس السياسة" لابن ظافر، وذَكَرَ أنهم يَرَوْنَ أنَّ ملوك مصر كالنواب لأئمَّتهم لقيامهم مقامهم".


إنزل إلى أسفل لقراءة الموضوع كاملاً



كتاب
حزب الله والحشاشون
مرتزِقة غِبَّ الطلب

(بحث تاريخي عن الشيعة  الإسماعيليين الحشاشين والتوأمة بينهم وبين حزب الله)

تأليف: حسين احمد صبرا

(2015)


الإهداء
إلى أبطال الثورة السورية، الذين يقاومون احتلال الحشَّاشين الجدد لأرضهم.



الباب الثاني

الفصل الثالث

الحشَّاشون مرتزِقة غِبَّ الطلب (18)


الحشَّاشون مرتزقة بيد المماليك



حسين احمد صبرا
في النصف الثاني من القرن الهجري السابع بات الحشَّاشون مرتزقةً بيد المماليك، وذلك بعدما قضى المغول على الحشَّاشين في إيران وقوَّضوا قلاعهم وحصونهم في بلاد الشام. يقول القلقشندي: "ثم انتَمُوا إلى ملوك مصر في أيام الظاهر بِيْبَرْس(1). واشتُهروا باسم الفَداوِيَّة لمفاداتهم بالمال على مَنْ يَقتلونه. وقد ذكر (إبنُ فضل الله العمري) في "مسالك الأبصار" نقلاً عن مقدَّمهم مبارك بن عُلوان: أنَّ كلَّ مَنْ مَلَك مصرَ كان مَظْهَراً لهم، ولذلك يَرَوْنَ إتلاف نفوسهم في طاعته لِما ينتقلون إليه من النعيم الأكبر في زعمهم. ورأيتُ نحو ذلك في "أساس السياسة" لابن ظافر، وذَكَرَ أنهم يَرَوْنَ أنَّ ملوك مصر كالنواب لأئمَّتهم لقيامهم مقامهم"(2).
____________________________________
(1) الظاهر بيبرس البُنْدقداري، سلطان مملوكي حكم مصر ما بين عامي 658ه/ 1259م و676ه/ 1277م.
(2) القلقشندي/ صبح الأعشى في كتابة الإنشا/ ج13، ص245.
____________________________________

الظاهر بيبرس يستولي على حصون الحشَّاشين

حينما حَلَّ عام 659ه/ 1260م كان "المستولي على حصون الإسماعيلية (الحشَّاشين) الثمانية (الزعيمُ الحشَّاشي) رَضِيُّ الدين أبو المعالي ابن نجم الدين اسماعيل ابن الشَّعْراني"(3). "وحصون الإسماعيلية (الثمانية) هي: الكَهْف، والقَدَمُوس، والمَيْنَقَة، والعُلَّيْقَة، والخَوَابِي، والرُصَافة، ومِصْيَاف، والقُلَيْعَة"(4).
في ذلك العام، أي سنة 659ه/ 1260م، أي عقب تسلُّم الظاهر بيبرس كرسيّ السلطنة في مصر، بدأ النواب المعيَّنون من قبل الدولة المملوكية بالتوافد على السلطان الجديد لتأدية فروض الطاعة بأن يضعوا أنفسهم في خدمته، فحَضَرَ الجميعُ إلا زعيم الحشاشين الشعراني "فإنه لم يحضر بل بعث يطلب تنقيض (إبطال) القطيعة (الضريبة) التي حملوها لبيت المال (المملوكي) بدلاً مما كانوا يحملونه إلى الفرنج"(5).
_____________________________________
(3) الذهبي/ تاريخ الإسلام/ ج14، ص692.
(4) إبن تغري بردي/ النجوم الزاهرة/ ج7، ص167.
(5) المقريزي/ السلوك/ ج2، ص65.
_____________________________________
وبما أنَّ زعيم الحشاشين الشعراني لم يحضر ليضع نفسه في خدمة الظاهر بيبرس بل طالَبَ بإبطال الضريبة التي كانوا سابقاً يدفعونها إلى الصليبيين ثم فرض عليهم المماليك أن يدفعوها إلى الدولة المملوكية، فإنَّ الظاهر بيبرس قرَّر الإنتقام من الحشَّاشين، وأول ما فعله أن "زادَ (الملكَ) المنصورَ (محمد بن المظفَّر) – صاحبَ حماة – بلادَ الإسماعيلية (الحشَّاشين)"(6)، وبذا أصبحت حصون الحشَّاشين تحت سلطة حاكم حماة، ثم "أَبْطَلَ الرسومَ الإسماعيلية (الحشّاشيَّة) التي تُجْبَى إليهم واستَأْدَى (أي أَخَذَ) الحقوقَ من مراكبهم وكسر شوكتهم بمضايقتهم"(7).
_____________________________________
(6) بيبرس المنصوري/ زبدة الفكرة/ ص69.
(7) المرجع السابق/ ص124.
_____________________________________
ظلَّ الحشَّاشون لا يحضرون إلى خدمة الظاهر بيبرس، إلى أن حلَّ عام 668ه/ 1269م، فكان أن رضخ أحدهم ويدعي صارم الدين بن الرَضِيّ – صاحب حصن العليقة – ووضع نفسه في خدمة بيبرس، بيد أنَّ زعيم الحشَّاشين الشعراني امتنع عن الحضور، فعفى بيبرس عن صارم الدين "وقلَّده بلادَ الدعوة (الحشَّاشية)"(8)، "وكتب له منشوراً بالحصون (الحشَّاشية) كلِّها وهي: قلعة الكَهف وقلعة الخَوَابِي والمَيْنَقَة والعُلَيْقة والقُدْمُوس والرُصَافة، ليكون نائباً عن السلطان (بيبرس)، وكتب له بأملاكه التي كانت بالشام على أن تكون (قلعة) مَصْيَاف وبلادها خاصاً للسلطان"(9). "وعَزَلَ (الظاهرُ بيبرس زعيمَ الحشَّاشين) نجمَ الدين الشعراني الملقَّب بالصاحب وولدَه منها لأنه لم يحضر إلى الخدمة"(10). وأرسل بيبرس مع صارم الدين "عسكراً إلى مصياف فتسلَّمها (أي عسكرُ بيبرس) في العُشْرِ الأوسط من رجب في هذه السنة (668ه/ 1269م) وهي
_____________________________________
(8) بيبرس المنصوري/ زبدة الفكرة/ ص124،
(9) المقريزي/ السلوك/ ج2، ص65 – 66،
(10) بيبرس المنصوري/ زبدة الفكرة/ ص124.
_____________________________________
كُرْسِيُّ مملكتهم ومقرُّ الفداوية"(11). "عند ذلك حَضَرَ الصاحبُ نجمُ الدين (الشعراني) إلى الأبواب السلطانية وهو شيخٌ قد ناهزَ القبضةَ (ناهز التسعين) ورَحِمَهُ السلطانُ ورقَّ له وولَاه النيابةَ شريكاً لابن الرَضِيّ (صارم الدين)، فإنه صهرُهُ، وقرَّر عليه حَمْلَ ماية ألف درهم في كلِّ عامٍ"(12). أما صارم الدين فقد تقرَّر عليه "في كل سنة ألفا دينار، فصارت الإسماعيلية (الحشَّاشون) يؤدّون المالَ بعدما كانوا يَجْبُونَ من ملوك الأرض القطائعَ (الضرائب)"(13). ثم عاد الظاهر بيبرس في شهر شوَّال من العام نفسه (668ه/ 1269م) "وفَتَحَ (قلعةَ) العُلَّيقة من الإسماعيلية (الحشَّاشين)"(14)، حيث نازَلَها عسكرُهُ "وتسلَّموها في الحادي عشر منه"(15).
_____________________________________
(11) بيبرس المنصوري/ زبدة الفكرة/ ص124.
(12) المرجع السابق/ ص124.
(13) المقريزي/ السلوك/ ج2، ص66.
(14) بيبرس المنصوري/ مختار الأخبار – تاريخ الدولة الأيوبية ودولة المماليك البحرية حتى سنة 702ه/ 1302م/ ص45،
(15) المرجع السابق/ ص45.
_____________________________________
وفي عام 670ه/ 1271م حاصر الظاهر بيبرس عكا، ثم وقَّع هدنةً مع الصليبيين، وبعدها "عاد السلطانُ (بيبرس) إلى بلاد الإسماعيلية (الحشَّاشين) فأَخَذَ عامَّتَها"(16). وفي عام 671ه/ 1272م سيطر الظاهر بيبرس على كافة حصون الحشَّاشين، حيث "سلَّمت الإسماعيليةُ ما كان بقي بأيديهم من الحصون وهي الكهف والقدموس والمنطقة (الأصح المَيْنَقَة)، وعُوِّضوا عن ذلك بإقطاعاتٍ (في مصر)، ولم يبقَ بالشام شيءٌ لهم من القلاع، واستنابَ السلطانُ فيها"(17).
_____________________________________
(16) إبن كثير/ البداية والنهاية/ ج15، ص432.
(17) المرجع السابق/ ج15، 437.
_____________________________________

الحشَّاشون مرتزقة بيد الظاهر بيبرس

بعد استيلاء الظاهر بيبرس على حصون وقلاع الحشَّاشين بات هؤلاء طوع يديه يحاربون في صفوف عسكره وينفِّذون ما يأمرهم به من اغتيالاتٍ طال معظمها الصليبيين.
ففي 27 ذي الحجة عام 668ه/ 16 آب – أغسطس عام 1270م اغتال الإسماعيليون الحشاشون واحداً من أقوى وأبرز زعماء الصليبيين في بلاد الشام وهو فيليب مونتفُورت، الذي كان آنذاك سيِّدَ صور، وهو – أي الظاهر بيبرس – "كيما يُضْعِف الفرنجَ دَبَّر اغتيال فيليب مونتفورت، الذي يُتعبر من أعلام باروناتهم (...) وبناءً على طلب بيبرس أرسلوا (أي الحشَّاشون) أحدَ الفِدَاوِيَّة إلى صور"(18)، حيث اغتالَهُ في الكنيسة. "والواقع أنَّ وفاة فيليب (مونتفورت) تُعتبر ضربةً خطيرة للشرق الفرنجي"(19).
_____________________________________
(18) ستيفن رنسيمان/ تاريخ الحروب الصليبية/ ج3، قسم2، ص570.
(19) المرجع السابق/ ج3، قسم2، ص570.
_____________________________________
وفي عام 670ه/ 1271م كان حاكم حصن مَرَقِيَّة(20) الصليبي بَرْثُولوميو متوجِّهاً إلى بلاد المغول للإستنجاد بهم ضد الظاهر بيبرس، فسارع بيبرس وأرسل مجموعةً من الحشَّاشين إثره لاغتياله قبل أن يصل إلى المغول، وبالفعل فقد تمكَّنوا من قتله. وبين أيدينا اعترافٌ صريح من قبل الظاهر بيبرس نفسه بأنه هو الذي يقف وراء هذا الإغتيال، إذ أرسل بيبرس وهو في بلاد الشام كتاباً إلى كبار أمرائه في مصر، ومن ضمن ما جاء في هذا الكتاب: "أنَّ صاحب مَرَقِية (بَرْثولوميو)، الذي أخذنا بلادَهُ، توجَّهَ إلى التتار مستصرخاً، وسيَّرنا وراءه فِدَاوِيَّة (حشَّاشين)، وقد وصل أحدهم وذكر أنهم قد قفزوا عليه وقتلوه"(21).
_____________________________________
(20) حصن مَرَقِيَّة: قلعة بساحل الشام قرب حمص.
(21) المقريزي/ السلوك لمعرفة دول الملوك/ ج3، ص76.
_____________________________________
ولا بد لنا هنا من التوقف عند محاولة اغتيالٍ قام بها الحشَّاشون استهدفت وليَّ العهد الإنكليزي إدوارد (إبن الملك هنري الثالث) عام 670ه/ 1271م، وقد وجدنا لها سببين يَدُلَّان على أنَّ الظاهر بيبرس هو الذي أرسل الحشَّاشين لاغتيال ولي العهد الإنكليزي، وبين أيدينا اعترافٌ بذلك من المؤرِّخ المملوكي بيبرس المنصوري، الذي كان نائب السلطنة المملوكية لفترةٍ من الفترات:
السبب الأول، أنَّ إدوارد أفشل خطة سلطان مصر المملوكي الظاهر بيبرس بإسقاط عكا من يد الصليبيين، إذ أنَّ بيبرس كان يحاصر عكا عام 670ه/ 1271م عندما استطاع إدوارد الدخول إليها مع جمعٍ من العساكر الإنكليز، وقد أقسم إدوارد عند توجُّهه إليها قائلاً: "ومع أنَّ جميع رفاقي بالسلاح وأبناء بلدي قد يتخلُّون عني فإنني (...) سوف أدخل عكا، وسوف أحافظ على عهدي ويميني حتى وإن كانت روحي ستفارق جسدي لإقدامي على هذا العمل"(22). وبالفعل، استطاع إدوارد الدخول إلى عكا، "وبوصوله خابت آمال سلطان مصر (الظاهر بيبرس) وتوقعاته، ومع أنه كان قد بدأ بحصار المدينة (عكا)، عاد إلى بلاده مع جيشه"(23).
_____________________________________
(22) وليم ريشنغر/ ذيل تاريخ متَّى باريس، ص1848( ورد الكتاب ضمن "الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية"، ج40).
(23) المرجع السابق/ ص1849.
_____________________________________
السبب الثاني، أنَّ الصليبيين كانوا "قد تحرَّكوا بالساحل وأغاروا على قاقون(24) وقتلوا الأمير (المملوكي) حسام الدين أستاذ الدار وبعضَ مَنْ كانوا معه"(25). ولهذا السبب "سُيِّرَتْ فداويَّةٌ (حشَّاشون) إلى ورد (إدوارد) ملك الفرنج بِهَدِيَّةٍ، فقفزَ عليه أحدهم"(26)، وجَرَحَهُ لكنَّه لم يتمكَّن من قتله، وجاءت محاولة الإغتيال هذه "جزاءً بما فعله (إدوارد) من الغارة على قاقون وقَتْل حسام الدين أستاذ الدار، وجزاءُ سيِّئةٍ سيِّئةٌ مثلها"(27).
_____________________________________
(24) شمال غرب طولكرم في فلسطين.
(25) بيبرس المنصوري/ زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة/ ص133.
(26) المرجع السابق/ ص134.
(27) المرجع السابق/ ص134.
_____________________________________

الحشَّاشون مرتزقة بيد محمد بن قلاوون

عام 678ه/ 1279م تسلَّم الحكم في مصر وبلاد الشام السلطان المملوكي المنصور قلاوون. وبعد عامين (أي عام 680ه/ 1281م) قام المنصور قلاوون بإقرار هدنة بين المسلمين والصليبيين "لمدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات"(28)، ومن ضمن ما نصَّ عليه اتفاق الهدنة أن تكون ضمن نفوذ السلطان قلاوون "حصونُ الدعوة (الإسماعيلية الحشّاشية) وما اشتملت عليه من البلاد والقلاع وهي: القدموس والكهف والمَيْنَقَة والخوابي والرصافي والقليعة والعُلَّيْقة"(29)، بالإضافة إلى "مصياف وبلادها"(30).
_____________________________________
(28) المقريزي/ السلوك لمعرفة دول الملوك/ ج2، ص139.
(29) المرجع السابق/ ج2، الهامش رقم1، ص140 (راجع النص الكامل لاتفاق الهدنة في "السلوك" ج2 ضمن الهامش رقم 1، ص139 – 140).
(30) المرجع السابق/ ج2، الهامش رقم1، ص140.
_____________________________________
وهكذا عاد الحشَّاشون وخضعوا بموجب هذا الإتفاق لسلطة المماليك. وعندما تسلَّم الحكم السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون(31) فإنَّ الحشَّاشين باتوا مرتزقةً بيده بحيث راح يستخدمهم لاغتيال أعدائه وخصومه، حتى قال عنهم الرحَّالة ابن بطوطة بعدما مَرَّ بقلاعهم بأنهم "سِهَامُ الملك الناصر (محمد بن قلاوون)، بهم يُصيب مَنْ يَعْدُو عنه من أعدائه بالعراق وغيرها، ولهم المرتبات. وإذا أراد السلطانُ (محمد بنُ قلاوون) أن يبعث أحدَهم إلى اغتيال عدوٍّ له أعطاهُ دِيَّتَهُ، فإن سَلِمَ (الحشّاشيُّ) بَعْدَ تَأَتِّي ما يُراد منه (أي بعد نجاحه في تنفيذ الإغتيال) فهي له (أي الدِيَّة)، وإن أُصيبَ فهي لولده"(32).
_____________________________________
(31) (الناصر محمد بن قلاوون (الملك الناصر أبو الفتح محمد بن المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي)، وقد حكم ثلاث مرات: 1- من عام 693ه/ 1293م (وكان عمره ثماني سنوات وشهور) وحتى عام 694ه/ 1294م ---- 2- من عام 698ه/ 1298م وحتى عام 708ه/  1308م ---- 3- من عام 709ه/ 1309م وحتى عام 742ه/ 1341م.
(32) إبن بطوطة/ تُحفة النُظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار/ نسخة إلكترونية، ج1، ص47.
_____________________________________

محمد بن قلاوون يسعى إلى اغتيال قَراسُنْقُر والأَفْرَم

حينما تسلَّم محمد بن قلاوون الحكم في مصر لثالث مرة عام 709ه/ 1309م راح يقتل كلَّ مَنْ شارك في قتل أخيه الملك الأشرف خليل بن قلاوون المنصور، والذي قُتل سنة 693ه/ 1293م. وكان "قَرَاسُنْقُر المنصوري(33) "من جملة كبار أمراء مصر والشام"(34)، "وممَّن حَضَرَ قَتْلَ الملكِ الأشرف (خليل بن قلاوون) أخي الملك الناصر (محمد بن قلاوون)، وشارك فيه"(35)، إلا أنه من ناحية أخرى هو "أَحَدُ مَنْ كان الســــــــــبــــــــــب لِعَوْد
_____________________________________
(33) شمس الدين أو سيف الدين قَرَاسُنْقُر المنصوري، أو قَرَاسُنْقُر الجوكندار الجركسي المنصوري، تولَّى نيابة مصر لفترة، ثم تولَّى حكم حماة سنة 698ه/ 1298م، ثم أصبح نائب حلب بحدود سنة 703ه/ 1303م، ثم نائب الشام، ثم حلب سنة 711ه/ 1313م. تزوَّج بالخاتون إبنة ملك التتار أَبْغَا بن هولاكو الذي مات سنة 680ه/ 1281م. توفي قَراسُنْقُر في بلاد التتار عام 728ه/ 1327م.
(34) إبن كثير/ البداية والنهاية/ ج16، ص216.
(35) إبن بطوطة/ تحفة النُظّار/ نسخة إلكترونية، ص47.
_____________________________________
الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى مُلْكِه في هذه المرة الثالثة"(36). "ولما تمهَّد المُلْكُ للملك الناصر (...) واشتدت أواخي سلطانه، جَعَلَ يَتَتَبَّع قَتَلَةَ أخيه، فيقتلهم واحداً واحداً، إظهاراً للأخذ بثأر أخيه، وخوفاً أن يتجاسروا عليه بما تجاسروا على أخيه"(37). "وأما قَرَاسُنْقُر فإنه أخذ في التدبير لنفسه خوفاً من القبض عليه كما قُبض على غيره"(38)، ولمَّا أحسَّ بأنَّ محمد بن قلاوون قد طلب من أمرائه إلقاء القبض عليه عن طريق الحيلة، حينها "خاف قَراسُنْقُرُ على نفسه"(39)، ففَرَّ بصحبة أمير حمص المملوكي آقوش الأَفْرَم وآخرين إلى بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاد التتار عام 712ه/ 1312م،
_____________________________________
(36) إبن تغري بردي/ النجوم الزاهرة/ ج9، ص198.
(37) إبن بطوطة/ تحفة النُظّار/ نسخة إلكترونية، ص47.
(38) إبن تغري بردي/ النجوم الزاهرة/ ج9، ص27.
(39) إبن بطوطة/ تحفة النُظّار/ نسخة إلكترونية، ص48.
_____________________________________
"ووصلوا إلى الملك (التتري) محمد خَدَابَنْدَه (أو خَرْبَنْدا)(40) سلطانِ العراق، (...) فأَكْرَمَ نَزْلَهُم (...) وأعطى قَراسُنْقور مدينة مَراغة من عراق العجم (تقع في أذربيجان الشرقية)، وتُسَمَّى دمشق الصغيرة، وأعطى الأَفْرَمَ هَمَدان"(41). ومنذ فرار قَراسُنْقُر إلى بلاد التتار عام 712ه/ 1312م وحتى وفاته عام 728ه/ 1327م "كان الملك الناصر (محمد بن قلاوون) يبعث له الفِداوِيَّة (الحشَّاشين) مرةً بعد مرة، فمنهم مَنْ يَدْخُلُ عليه دارَه فيُقْتَلُ دونه، ومنهم مَنْ يرمي بنفسه عليه وهو راكبٌ فيضربه. وقُتِلَ بسببه من الفِداوِيَّة (الحشَّاشين) جماعةٌ. وكان (قَراسُنْقُر) لا يفارق الدرعَ أبداً، ولا ينام إلا في بيتِ العود والحديد"(42).
_____________________________________
(40) خَرْبَنْدا بن أرغون، وقد سمَّى نفسه بعد إسلامه عقب تسلُّمه الحكم محمَّد خَدَابَنْدَه. حَكَمَ مملكة التتار في إيران والعراق من سنة 703ه/ 1303م وحتى سنة 716ه/ 1316م.
(41) إبن بطوطة/ تحفة النُظّار/ نسخة إلكترونية، ص48.
(42) المرجع السابق/ نسخة إلكترونية، ص48.
_____________________________________
فمثلاً، جَرَت عام 715ه/ 1315م محاولةٌ لاغتيال قَراسُنْقُر، فلقد "وثَبَ عليه رجلٌ فداويٌّ (حشَّاشيّ) من جهة صاحب مصر (الملك الناصر محمد بن قلاوون) فلم يقدر عليه وقُتِلَ الفداويّ"(43). (راجع في الأسفل الفقرة التي بعنوان "الرواية الكاملة لمحاولة اغتيال الأَفْرَم").
وفي عام 720ه/  "بَعَثَ السلطانُ (محمد بن قلاوون) ثلاثين فداوياً (حشَّاشياً) من أهل قلعة مصياب(44) للفتك بالأمير قَرَاسُنْقُر، فلمّا وصلوا إلى تبريز (في أذربيجان الإيرانية في وقتنا الحالي) نَمَّ بعضُهم لقَرَاسُنْقُر عليهم، فتتبَّعهم وقبض على جماعةٍ منهم، وقتلهم. وانفرد به بعضُهم وقد ركب من الأردو (معسكر التتار)، فقفز عليه فلم يتمكَّن منـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه، وقُتِلَ
_____________________________________
(43) إبن كثير/ البداية والنهاية/ ج16، ص112.
(44) مصياب أو مصياف أو مصيات، وهو حصنٌ للحشاشين بالساحل الشامي قرب طرابلس.
_____________________________________
(الحشَّاشيّ). واشتهر في الأردو خبرُ الفداوية، وأنهم حَضَروا لقتل السلطان (التتري) أبي سعيد و(نائبه) جوبان(45) والوزير علي شاه وقَرَاسُنْقُر وأمراء المُغل (المغول)، فاحترسوا على أنفسهم، وقبضوا عدة فداوية. فتحيَّل بعضُهم وعمل حمَّالاً، وتَبِعَ قَرَاسُنْقُرَ ليقفز عليه فلم يلحقه، ووقع على كِفْلِ الفَرَس فقُتل، فاحتجب (السلطان التتري) أبو سعيد بالخركاه (أي ببيتٍ من الخشب) أحد عشر يوماً خوفاً على نفسه"(46).
_____________________________________
(45) جوبان بن تلك بن تدوان: القائم بدولة أبي سعيد بن خرابندا بالأردو، ثم نائب القان أبي سعيد بن خرابندا، وقد قُتل بهراة سنة 728ه.
(46) المقريزي/ السلوك/ ج3، ص27 – 28.
_____________________________________
ثم أحضَرَ أبو سعيد الشخص المكلَّف بالوساطة بينه وبين سلطان مصر محمد بن قلاوون، "وقال له: والك (ويلك)! أنتَ كلَّ قليلٍ تُحْضِرُ إلينا هدية (من مصر)، وتريد منّا أن نكون متَّفقين مع صاحب مصر (قلاوون) لتَمْكُرَ بنا حتى تقتلنا الفداوية والإسماعيلية! وهدَّده أنه يقتله شرَّ قتلة، ورَسَمَ عليه"(47)، ثم أفرج عنه لاحقاً.
"ثم قدم الخبرُ من بغداد بأنَّ بعض الإسماعيلية (الحشّاشين) قفز على النائب بها ومعه سكِّين، فلم بتمكَّن منه، ووقعت الضربة في أحد أمراء المُغل، وأنَّ الإسماعيلي فَرَّ، فلمّا أَدْرَكَهُ الطِلْبُ (أي الطالِب، أي الشخص الذي كُلِّف بملاحقته وإلقاء القبض عليه) قَتَلَ (الحشَّاشيُّ) نفسَهُ"(48).
_____________________________________
(47) المقريزي/ السلوك/ ج3، ص27 – 28.
(48) المرجع السابق/ ج3، ص27 – 28.
_____________________________________
وفي العام نفسه (720ه/ 1320م) قام قَراسُنْقُر نفسُهُ هذه المرة بإرسال حشَّاشين لاغتيال سلطان مصر محمد بن قلاوون، لكن تمَّ الكشف عنهم، فقد "اتَّفق أنَّ بعضَ العامّة أَخْبَرَ عن شخصٍ غريب، فأفضى الأمر إلى حملهما إلى الخازن والي القاهرة، فقال العامّيُّ: هذا الغريب قاصدٌ ومعه فداوية. فقرَّره الوالي فاعترف أنَّ معه أربعة من جهة قَرَاسُنْقُر بَعَثَهم لقتل السلطان (قلاوون)؛ فقُبض منهم على رجلين، وفَرَّ الآخران. وحَمَلَ الوالي (بهما) إلى السلطان، فأقرَّا بأنهما من جهة قَرَاسُنْقُر؛ فأمر بهما فقُتلا. وأخذ السلطان يحترس على نفسه، ومَنَعَ عند ركوبه إلى الميدان المتفرِّجين من الجلوس في الطرقات، وألزم الناس بغلق طاقات البيوت"(49).
ونبقى في العام نفسه (720ه/ 1320م)، إذ أرسل ملكُ التتار أبو سعيد إلى مصر يطلب الصلح مع محمد بن قلاوون، وكان من بين شروط الصلح "ألَّا تَدْخُل الفداوية (الحشَّاشون) إليهم (...) وألَّا يُطْلَب الأميرُ قَراسُنْقُر"(50)، "فاتَّفق الرأي (في مصر) على إمضاء الصلح بهذه الشروط"(51).
_____________________________________
(49) المقريزي/ السلوك/ ج3، ص29.
(50) المرجع السابق/ ج3، ص29.
(51) المرجع السابق/ ج3، ص29.
______________________________________
عام 728ه/ 1327م وقع خلاف شديد بين دمرداش بن جوبان (أي ابن نائب ملك التتار) من ناحية، وملك التتار أبي سعيد وسلطان مصر محمد بن قلاوون من ناحية ثانية، وقد خاف دمرداش على نفسه بدايةً من السلطان قلاوون. "وكان دمرداش قد مَلَكَ بلادَ الروم جميعَها وجبالَ ابن قرمان، وأقام على كل دربند جماعةً تحفظه، فلا يمرّ أحدٌ إلا ويعلم به خوفاً على نفسه من السلطان الملك الناصر (محمد بن قلاوون) أن يبعث إليه فداوياً (حشَّاشياً) يقتله بسبب ما حصل بينهما من المواحشة التي اقتضت انحصار السلطان منه، وأنه منع التجار وغيرهم من حمل المماليك إلى مصر، وإذا سمع بأحدٍ (آتٍ من) جهة صاحب مصر أَخْرَقَ به (أي لَزِمَ بيتَهُ ولم يخرج منه خوفاً على نفسه منه)"(52).
_____________________________________
(52) المقريزي/ السلوك/ ج3، ص106.
_____________________________________
ثم عَلِمَ دمرداشُ بنية ملك التتار أبي سعيد بن خرابندا قَتْلَهُ، حينها لم يجد بداً من إعلان طاعته للسلطان محمد بن قلاوون وسافر إليه في مصر وأقام عنده، ثم ارتاب قلاوون بأمره بعدما بدرت منه تصرُّفاتٌ مريبة بدا منها كما لو أنه يحضِّر للإنقلاب عليه، فقام قلاوون باعتقال دمرداش. وهنا جرت المقايضة بين ملك التتار أبي سعيد ومحمد بن قلاوون، فقد أرسل أبو سعيد رُسُلاً إلى محمد بن قلاوون، "وقيل: كان مضمون رسالتهم طَلَب دمرداش من السلطان (ابن قلاوون)، وأنه إذا سُلِّمَ (دمرداش) إليهم أَرْسَلَ الملكُ أبو سعيد في مقابلة ذلك الأميرَ شمسَ الدين سُنْقُر المنصوري (أي قَرَاسُنْقُر). فمالَ السلطانُ إلى ذلك"(53)، وقام بقتل دمرداش وقَطَعَ رأسه، "وأرسل السلطانُ الرأسَ إلى أبي سعيد"(54). " فلما وَصَلَهُ (رأسُ دمرداش) أَمَرَ (ملك التتار أبو سعيد) بِحَمْلِ قراسنقور إليه، فلما عرف قراسنقور بذلك (أي عرف بأنه سيُقْتَل ويُرسل رأسُهُ إلى مصر) أَخَذَ خاتماً كان له مجوَّفاً، في داخله سُمٌّ ناقع، فنزع فَصَّهُ، وامتصَّ ذلك السُمَّ فمات لحينه. فعَرَّفَ أبو سعيد بذلك الملكَ الناصرَ (محمد بن قلاوون)، ولم يبعث له برأسه"(55).
_____________________________________
(53) المقريزي/ السلوك/ ج3، ص110.
(54) المرجع السابق/ ج3، ص110.
(55) إبن بطوطة/ تحفة النُظّار/ نسخة إلكترونية، ص48.
_____________________________________
تجدر الإشارة إلى أن السلطان محمد بن قلاوون عام 715ه/ 1315م حينما "بَعَثَ فداويةً (حشَّاشين) من أهل (قلعة) مصياف لقتل قَراسُنْقُر، فصارَ هناك رجلٌ من الأكراد يُقال له مندوه يَدُلُّ على قُصَّاد (قاصدي) السلطان، أَخَذَ منهم جماعةً (أي اعتقل جماعةً من الحشَّاشين المكلَّفين باغتيال قَراسُنْقُر)، فشَقَّ ذلك على السلطان، وأخذ في العمل عليه"(56)، وهذا هو السبب في قيام محمد بن قلاوون بغزو ملطية، المدينة الواقعة في الجزيرة في بلاد الشام، حيث "قُبِضَ على مندوه الكردي"(57) وتمَّ سَجْنُه لفترة.
_____________________________________
(56) المقريزي/ السلوك/ ج2، ص501 – 502.
(57) المرجع السابق/ ج2، ص502.
_____________________________________
 
الرواية الكاملة لمحاولة اغتيال الأَفْرَم

ذكرنا في ما سبق أنَّ الأمير المملوكي قَراسُنْقر قد فَرَّ إلى بلاد التتار بصحبة أميرٍ مملوكي آخر هو الأَفْرَم. وإلى جانب المحاولات العديدة لاغتيال قَراسُنْقُر، والتي قام بها الحشَّاشون بتكليفٍ من سلطان مصر المملوكي محمد بن قلاوون، فإنَّ المؤرِّخ البدر العيني يروي لنا روايةً تفصيلية عن محاولة اغتيالٍ طالت الأَفْرَمَ في تبريز وأدَّت إلى جرحه، في وقتٍ كان قَراسُنْقُر يقف على بُعد بضع خطواتٍ منه. وقد قام بمحاولة الإغتيال تلك الحشَّاشون أيضاً وبتكليفٍ من محمد بن قلاوون، والأرجح أن تكون محاولة الإغتيال تلك قد حصلت عام 715ه/ 1315م زَمَنَ ملك التتار خَرْبَنْدا، أي قبل وفاة الأخير بعامٍ واحد.
 يذكر البدر العيني أنَّ الأَفْرَم وقَراسُنْقُر وغيرهما من الأمراء خرجا في موكبٍ في تبريز (إحدى مدن بلاد التتار آنذاك)، ثم "رجعوا يريدون منازلهم، وفي الرجوع اختلط الأمراء بالأجناد والعوام على العادة، وإذا فِداوي (حشَّاشي) قد وثب على الأَفْرَم من مؤخَّر الفرس، وصرخ فيه بصوتٍ هائل، ثم ضربه بسكِّينٍ في صدره، فرُدَّت السكين إليه، ولم تعمل شيئاً لأنه كان عليه (على الأَفْرَم) زَرَدية (درع) ضيقة العيون لا يعمل فيها شيء، فصرخ الأفرم على مماليكه فجاء إليه مملوكٌ وضرب الفِداوي بالدبوس (عصا من خشب أو حديد كُرَوِيَّة الرأس) فأَرْمَاه (أي ألقاه أرضاً)"(58).
____________________________________
(58) البدر العيني/ عقد الجُمان في تاريخ أهل الزمان/ ص443 (ورد المقطع ضمن كتاب "الحشيشية" لبرنارد لويس، وقد أضافه إليه الباحث د. سهيل زكار، من ص443 إلى ص446، وجاء تحت عنوان "ذكر قضية الفداوي مع الأفرم").
_____________________________________
اللافت هنا هو ما صاح به هذا الحشَّاشي حينما أُوْقِعَ على الأرض، إذ نَظَرَ "إلى ما حلَّ به فصاح: الله أكبر، الله أكبر يا ثارات الملك الناصر (محمد بن قلاوون)"(59). ثم وثب الفِداوي الحشَّاشي على المملوك وضربه بسكِّين، وراح يتصدَّى للمماليك حتى قتل منهم 12 فرداً. وأما قَراسُنْقُر وأمراء آخرون "لمَّا رأوا الفداوي قَفَزَ على الأَفْرَم هربوا وخرجوا من بين الناس، فقال لهم (الأَفْرَم): يا أمراء كنتُ أخاف من هذا (أي مما فعله الحشَّاشون)، وقلتُ لكنْ ما سمعتم مني، والله إن لم تجعلوا بالكم وإلا رُحْتُم أَشْأَمَ الرَوَاح"(60). بعدها "حملوا الأَفْرَمَ إلى وِطَاقِهِ (خيمته)، وكان قد انجرح من ضربةٍ ثانية، وطلب له (نائبُ ملك التتار) جوبانُ الجرائحيَّة (الجرَّاحين) فداووه وشَدُّوه"(61).
_____________________________________
(59) البدر العيني/ عقد الجُمان في تاريخ أهل الزمان/ ص443.
(60) المرجع السابق/ ص443.
(61) المرجع السابق/ ص443.
_____________________________________
"وأما قضية هذا الفِداوي (الحشَّاشي) فهي عجيبة، وذلك أنَّ هؤلاء الأمراء (الأَفْرَم وقراسُنْقُر وغيرهما) لما قفزوا (هربوا إلى مملكة التتار)، وبَلَغَ السلطانَ (الناصر محمد بن قلاوون) ذلك، كان (ابن قلاوون) سَيَّرَ إلى نائب (قلعة) مصيات (أي إلى زعيم الحشَّاشين في بلاد الشام)، وأَمَرَهُ أن يُرسِلَ اثنين من الفداوية مشهورَين بالشطارة والنهضة إلى نائب الرحبة (بدر الدين الأَزْكَشي)، وهو (أي الأَزْكَشي) يرسلهما مع قُصَّادٍ ثِقَاتٍ إلى تبريز ويَعِدُ لهما أنهما إذا قَضَيا الشغلَ كما يريده السلطان (أي اغتالا قَراسُنْقُر والأَفْرَم) فلهما ما أرادا"(62).
____________________________________
(62) البدر العيني/ عقد الجُمان في تاريخ أهل الزمان/ 444 – 445.
____________________________________
لمَّا وصل الحشَّاشان إلى الأَزْكَشي قام الأخير وأرسل بصحبتهما رجلاً ثقةً خبيراً بالطرقات واسمه علي بن المعلِّم، وقد وَعَده الأَزكَشي بأن تكون له اليد البيضاء عند السلطان محمد بن قلاوون إنْ قضى ما كُلِّفَ به. ثم سار الجميع، الحشَّاشان وعلي بن المعلِّم باتجاه تبريز في زي تجّار صابون ومع كل واحد حماران، وساروا مع قافلةٍ تجارية رائحة إلى تبريز. وأثناء الطريق إلى تبريز تعمَّد علي بن المعلِّم أن يُحسن إلى التجار في القافلة إحساناً مبالغاً فيه حتى لا يشكُّوا فيه وفي الحشَّاشَين، حتى تعلَّقوا به واحتاروا كيف يردُّون إليه الجميل. ولمَّا وصلوا إلى تبريز لم يكن لعلي بن المعلِّم والحشَّاشَين معه من "شُغْلٍ إلا تَتَبُّع آثار قَراسُنْقُر إلى ذلك اليوم الذي جرى ما جرى فيه من الفداوي الذي جَرَحَ الأَفْرَمَ وقَتَلَ جماعةً من الناس، ثم قُتِل. ففي هذا اليوم قال علي (بن المعلِّم) لذلك الفداوي: هؤلاء غرماء السلطان الملك الناصر (محمد بن قلاوون) فأبْصِرْ إش تعمل، وأعطاه سكِّيناً من السكاكين المختومة التي عنده، وفعل هو (أي الحشَّاشي) كما ذكرنا، ورفيقُهُ (الحشَّاشي) الآخر ما قَدَرَ على عمل شيءٍ بل هرب، واختلط بالناس"(63).
_____________________________________
(63) البدر العيني/ عقد الجُمان في تاريخ أهل الزمان/ ص446.
_____________________________________
بعدما وقعت محاولة الإغتيال، والتي طالت الأَفْرَم ولم تفلح في النيل من قَراسُنْقُر، استدعى (نائبُ ملك التتار) جوبانُ القائدَ العسكريَّ في تبريز ونائب المدينة "وقال لهما: إعْلَمَا بأنَّ هذا الفداوي لم يكن لوحده بل له رفاق"(64)، وطلب منهما أن يعتقلا شركاء هذا الحشَّاشي. فَصِيْرَ إلى اعتقال عدد كبيرٍ من الناس وخاصةً من الغرباء عن المدينة، وطلب الأَفْرَمُ من ملك التتار محمد خَرْبَنْدا أن يُعْرَضَ هؤلاء الناس عليه لكونه قد عمل سابقاً في نيابة الشام، الأمر الذي قد يُعِيْنُهُ على التعرُّف على الجناة، وإن لم يستطع التعرف عليهم فالأفضل إطلاق سراح الناس المعتقلين بدلاً من إيقاع الضرر بهم . وكان علي بن المعلِّم والفداوي الآخر الذي هرب، من بين المعتقَلين.
_____________________________________
(64) البدر العيني/ عقد الجُمان في تاريخ أهل الزمان/ ص443.
_____________________________________
يتابع البدر العيني الرواية قائلاً: "فلما مسكوا الناسَ كما ذكرنا، وكان علي (بن المعلِّم) هو والمكارية واقفين هناك مع الناس، فلما مسكوا الناس كما ذكرنا، مسكوا عليّاً والفداوي الآخر مع الناس، فخاف عليّ (بن المعلِّم) من الأَفْرَم أن يعرفه، فاصفرَّ وجهُهُ وظَهَرَ عليه الخوفُ، فقال له أولئك التجار (أصدقاؤه): ما بك يا عليّ؟ فقال: نحن غرباء ما لنا مَنْ يعرفنا فيتعلَّقون وينكرون (بمعنى يفترون) علينا فيقتلوننا، فقالت التجار: طَيِّبْ قلبَكَ فنحن ما نُخَلِّي أحداً يحضر بك إلى الملك ولو أَنَّا خسرنا لأجلك جميع أموالنا. ثم بذلوا مالاً كثيراً للظَلَمَة (الأصح "الظُلُوم" أي الأشخاص) الذين مسكوهم وقالوا: هذا – يعني عليّاً – ورفيقُهُ – يعني الفداوي الآخر – ناسٌ غرباء وبهما حمَّى وباردة، فلما تركوهما ودّوا (أرسلوا) الناسَ إلى الأَفْرَم واستعرضهم وأطلقهم كما ذكرنا، رَجِعَت التجّارُ إلى الخان وتجهَّزوا وسافروا فخرج عليّ (بن المعلِّم) والفداويُّ معهم إلى أن وصلوا إلى الموصل فأقاموا فيها يومين، ثم سافروا إلى أن جاؤا إلى الرحبة، ودخل الفداوي على الأَزْكَشي، وأخبره عليّ (بن المعلِّم) بما جرى وأنَّ أحد الفداويين قُتل، وأنَّ هذا ما وقع، فكَتَبَ الأَزْكَشيُّ إلى نائب الشام وأعلمه بذلك، وكتب نائبُ الشام إلى السلطان (محمد بن قلاوون). ثم إنَّ نائب الشام خَلَعَ على عليّ (بن المعلِّم) وأعطاه خمسمائة دينار، وحَبَسَ الفداويَّ الآخر في الشام"(65).
_____________________________________
(65) البدر العيني/ عقد الجُمان في تاريخ أهل الزمان/ ص446.
_____________________________________
الفصل التالي:
الحديث السابق:








 x

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق