2017/03/23

كتاب "حزب والحشَّاشون"/ الحشَّاشون مرتزِقة غِبَّ الطلب (15): مَنْ أَوْعَزَ إلى الحشَّاشين أن يغتالوا حاكم صور الصليبي كونراد دو مونتفرَّات؟!



نصل الآن إلى الإغتيال الأكثر تعقيداً من حيث البحث عن الجهة التي أوعزت إلى الحشَّاشين أن يغتالوا حاكم صور الصليبي المركيز كونراد دو مونتفرَّات. لقد اغتاله عام 588ه/ 1192م اثنان من الحشَّاشين في مدينة صور، التي كان يحتلها الصليبيون، بعدما ادَّعيا بأنهما مسيحيَّان وباتا من المقرَّبين من المركيز، إلى أن تمكَّنا من طعنه بالسكاكين في الشارع، وقد تمَّ القبض عليهما واعترفا بأنهما من الإسماعيلية الحشَّاشين قبل أن يصار إلى قتلهما...




إنزل إلى أسفل لقراءة الموضوع كاملاً



كتاب
حزب الله والحشاشون
مرتزِقة غِبَّ الطلب

(بحث تاريخي عن الشيعة  الإسماعيليين الحشاشين والتوأمة بينهم وبين حزب الله)

تأليف: حسين احمد صبرا

(2015)


الإهداء
إلى أبطال الثورة السورية، الذين يقاومون احتلال الحشَّاشين الجدد لأرضهم.



الباب الثاني

الفصل الثالث

الحشَّاشون مرتزِقة غِبَّ الطلب (15)


مَنْ أَوْعَزَ إلى الحشَّاشين أن يغتالوا
حاكم صور الصليبي كونراد دو مونتفرَّات؟!



حسين احمد صبرا
نصل الآن إلى الإغتيال الأكثر تعقيداً من حيث البحث عن الجهة التي أوعزت إلى الحشَّاشين أن يغتالوا حاكم صور الصليبي المركيز كونراد دو مونتفرَّات. لقد اغتاله عام 588ه/ 1192م اثنان من الحشَّاشين في مدينة صور، التي كان يحتلها الصليبيون، بعدما ادَّعيا بأنهما مسيحيَّان وباتا من المقرَّبين من المركيز، إلى أن تمكَّنا من طعنه بالسكاكين في الشارع، وقد تمَّ القبض عليهما واعترفا بأنهما من الإسماعيلية الحشَّاشين قبل أن يصار إلى قتلهما.

اتِّهام رتشارد قلب الأسد

أوَّل مَنْ وجَّه الصليبيون إليه أصابع الإتهام باغتيال كونراد دو مونتفرَّات عن طريق الحشَّاشين هو ملك انكلترا رتشارد قلب الأسد، وليس صلاح الدين الأيوبي، وهناك قرائن عديدة  يمكن أن نسوقها في هذا الإطار تشير إلى ضلوع قلب الأسد في عملية الإغتيال تلك، ومنها العلاقة المتأزمة جداً بين حاكم صور وملك إنكلترا، والناجمة عن الصراع الحاد على السلطة ضمن الممالك الصليبية. ومنها أيضاً زواج كونراد مونتفرَّات من إيزابيل، إبنة ملك القدس عموري الأول(1)، الوريثة الوحيدة المتبقية، بحيث أنَّ كل مَنْ يتزوَّج بها يصبح ملكاً للقدس. واللافت أنَّ كونراد دو مونتفرَّات كان على وشك أن يُتَوَّج ملكاً للقدس حين اغتيل في 13 ربيع الآخر 588ه/ 28 نيسان – ابريل 1192م، ليسارع رتشارد قلب الأسد إلى تعيين ابن أخته هنري دو شامباني ملكاً على القدس بعدما سارع رتشارد إلى تزويجه بأرملة كونراد – إيزابيل – بعد اغتيال كونراد بأسبوعٍ واحد وهي حاملٌ منه.
_____________________________________
(1) حَكَمَ ما بين 558ه – 569ه/ 1162م – 1173م، ولم ينجب سوى ابنتين اثنتين: سيبيل وإيزابيل. وقد توفيت سيبيل عام 586ه/ 1190م،
_____________________________________
وعلى صعيدٍ آخر، كانت تجري مراسلةٌ على قدمٍ وساق بين كونراد وصلاح الدين بغية الصلح، حيث أنَّ حاكم صور أراد تثبيت سلطته بوجه الملك الإنكليزي قلب الأسد، وكما قال ابن العبري: "وكان قد نشب خلافٌ بين المركيز (كونراد دو مونتفِرّات) صاحب صور وبين ملك الانكليز (رتشارد قلب الأسد)، فقد طمع المركيز (كونراد) أن يستقل بهذه المدينة (أي صور) عن المَلِك، فحاول المَلِك (قلب الأسد) أن ينزعه عنها، فأرسل المركيز (كونراد) إلى صلاح الدين يخبره بالتحالف معه لمحاربة أبناء جلدته الفرنجة. وبينما كان سفير المركيز عند صلاح الدين تسلَّل إليه (أي إلى المركيز بصور) رجلان اسماعيليان تنكَّرا بلباس الرهبان"(2) واغتالاه. ويقول ابن شداد تحت عنوان "ذكر عَوْد رسول صور": "ولمّا كان سادس ربيع الآخر من سنة ثمانٍ وثمانين وخمسمائة (588ه)، وصل يوسف من جانب المركيس (كونراد دو مونتفِرّات) يجدِّد حديثَ الصلح ويقول: قد انفصل الحال على شيءٍ بينه (أي كونراد) وبين الإفرنجية، فإنْ نَجَزَ في هذه الأيام (أي أقام الصلح) سارت الفرنسيسية في البحر (بقيادة ملك فرنسا فيليب)، وإن تأخَّر (الصلحُ) بَطَلَ الحديثُ في الصلح بالكلِّيّة، فرأى السلطانُ (صلاحُ الدين) الصلحَ مع المركيس مصلحةً (...) فأجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاب إلى
_____________________________________
(2) إبن العبري/ تاريخ ابن العبري/ ص436 – 437. (ورد هذا الكتاب "ضمن الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية"، ج5).
_____________________________________
مُلْتَمَس المركيس (كونراد) وكَتَبَ مع صاحبه (يوسف الرسول) مواصفةً على نعت ما تقدَّم، وسار يوسف الرسول تاسع ربيع الآخر"(3). أي أنَّ الصلح بين صلاح الدين وكونراد كان على وشك أن يوقَّع حينما اغتيل الأخير في 13 ربيع الآخر 588ه/ 28 نيسان – ابريل 1192م. يضاف إلى ذلك ما ذكره عماد الدين الأصفهاني عن الحشَّاشَين الإثنين من أنَّ الصليبيين "أَلْفُوهما (وجدوهما) من الفدائية الإسماعيلية مرتَدَّيْن، فسألوهما: مَنْ وَضَعَكُما على تدبير هذا التدمير، فقالا: ملكُ الإنكتير (أي ريتشارد قلب الأسد)(4).
إذاً، نجح صلاح الدين الأيوبي في شق صفوف الصليبيين بتجاوبه مع طلب الصلح المقدَّم من جانب حاكم صور الحالي وملك القدس المرتقـــــــــــــــــــــب
_____________________________________
(3) إبن شداد/ النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين)/ ص226. (ورد الكتاب في الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية، ج15).
(4) عماد الدين الأصفهاني/ الفتح القسّي في الفتح القدسي/ ص307/ وقد نَقَلَ عنه كلٌّ من ابن شداد في "النوادر السلطانية" وأبي شامة في "كتاب الروضتين".
_____________________________________
كونراد دو مونتفرَّات. من هنا نجد عماد الدين الأصفهاني – المقرَّب آنذاك من صلاح الدين – يقول: "ولم يُعجبنا قتلُ المركيس (كونراد) في هذه الحالة، وإنْ كان من طواغيت الضلالة، لأنه كان عدوَّ مَلِكِ الانكلتير (رتشادر قلب الأسد) ومنازعَهُ على المُلْكِ والسرير، ومنافسَهُ في القليل والكثير، وهو (أي كونراد) يراسلنا حتى نساعده عليه، وننزع ما أخذه من يديه. وكلما سَمِعَ ملكُ الإنكلتير إنَّ رسولَ المركيس عند السلطان (صلاح الدين) مالَ إلى المراسلة بالإستكانة والإذعان، وأعاد الحديث في قرار الصلح (...). فلمَّا قُتل المركيسُ (كونراد) سَكَنَ رَوْعُهُ (فَزَعُهُ) ورُوْعُهُ (سوادُ قلبه)، وذهب ضَوْرُهُ (جوعه الشديد) وضَوْعُهُ (فَزَعُهُ)، وطاب قلبُهُ، وآبَ لُبُّهُ، واستوى أمرُهُ"(5).
_____________________________________
(5) عماد الدين الأصفهاني/ الفتح القُسّي في الفتح القدسي/ ص307.
_____________________________________
والمؤرخون الصليبيون بدورهم ذكروا أنَّ الصليبيين آنذاك قد وجَّهوا إلى الملك الإنكليزي رتشارد قلب الأسد أصابع الإتهام بقتل حاكم صور كونراد دو مونتفرَّات، إذ يقول المؤرخ الصليبي المجهول، الذي كتب ذيلاً على تاريخ وليم الصُوْري: "وكان ملك إنكلترا (قلب الأسد) مقيماً في يافا، وقد سمع تقارير وردت من بلاد ما وراء البحار تفيد أنَّ الملك فيليب ملك فرنسا قد عاد سالماً إلى مملكته (بعدما كان قد جاء مع قلب الأسد ضمن الحملة الصليبية الثالثة، وبذا تخلَّص قلبُ الأسد من منافسٍ قوي له على السلطة في الممالك الصليبية)، ودخل إلى فرنسا واستقرَّ في غيسورت. وهنا أراد ملك إنكلترا الإستيلاء على كل البلاد (المسَيْطَر عليها من قبل الصليبيين) والسيطرة عليها لنفسه، فغادر يافا وقصد مدينة عكا، ثم ما لبث أن وصلت الأخبار تتحدَّث عن اغتيال الماركيز من قِبَل الحشيشية، ووُجِّهَتْ أصابعُ الإتهام والملامة إلى الملك رتشارد وقيل إنه قَتَلَ الماركيز (كونراد) بالتآمر مع الحشيشية والإتفاق معهم"(6).
____________________________________
(6) ذيل تاريخ وليم الصوري/ ص423 – 424. (ورد الكتاب ضمن "الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية، ج8). 
____________________________________
وهناك أيضاً أمرٌ لافت يصب في خانة الإتهام الموجَّه لرتشارد قلب الأسد، حيث أنَّ الصليبيين البيازنة، أي الآتين من مدينة بيتزا الإيطالية، دبَّ خلافٌ بينهم وبين حاكم صور كونراد وكانوا على وشك تسليم مَلِكِ القدس السابق جي لوزجنان مدينة صور، وهو أمرٌ ضد مصلحة رتشارد قلب الأسد، وفجأةً وقع الإغتيال. يقول المؤرخ الصليبي المجهول: "وكان البيازنة أقاموا في صور، قد اشتكوا من الماركيز (كونراد)، فقد كانوا قد أقرضوه أموالهم لشراء جزيرة قبرص، لكنَّ الماركيز (كونراد) لم يسدِّد لهم المال الذي استلفه منهم، فما كان منهم إلا أن بعثوا برسولٍ خاص من قِبَلهم إلى الملك غي (غي لوزجنان، ملك القدس السابق وملك قبرص اللاحق) ليأتي إلى المملكة ليسلِّموه صور، غير أنَّ الملك رتشارد فاجأه، لأنَّ اغتيال الماركيز وقع يوم الثلاثاء، وفي يوم الخميس(7) تزوَّجت إيزابيل من الكونت (هنري دو  شامباني)"(8). مع التكرار بأنَّ زواج الكونت هنري دو شامباني – إبن أخت قلب الأسد – بإيزابيل قد جعل منه حُكماً ملكاً على القدس بدلاً من كونراد دو مونتفرَّات.
_____________________________________
(7) الأصح الثلاثاء التالي في 20 ربيع الآخر 588ه/ 5 أيار – مايو 1192م.
(8) ذيل تاريخ وليم الصوري/ ص425.
_____________________________________
نستنتج مما تقدَّم أنَّ للحشَّاشين فضلاً كبيراً في تسنُّم هنري دو شامباني منصب ملك القدس، إذ لولا اغتيالهم كونراد مونتفرَّات لكان الأخير هو ملك القدس. وصودف عام 591ه/ 1194م أن توجَّه الملك هنري إلى أنطاكية، وفي الطريق حطَّ رحاله في طرطوس. و"حينما تحرَّك هنري (من طرطوس) صوب الشمال، التقى بسفارةٍ من قِبَل الحشيشية، ذلك أنَّ سناناً شيخ الجبل مات منذ زمنٍ قريب، وحَرِصَ خليفتُهُ (الحسن بن سنان راشد الدين) على إحياء الصداقة التي كانت قائمة بين الحشيشية والفرنج. فبعث (الحسن) بأعذاره عن مصرع كنراد مونتفرَّات. على أنَّ هذه الجريمة لم يتعذَّر على هنري أن يغفرها"(9). وأبلغ الحشَّاشون ملكَ القدس هنري بأنَّ شيخ الجبل يوجِّه إليه الدعوة لزيارته في قلعته. وعندما لبَّى الملك هنري الدعوة "جاء مقدّمُ الحشيشية (الحسن بن سنان راشد الدين) لاستقباله، وقد تلقَّاه بكل حفاوة وترحاب، ثم صَحِبَهُ في جولةٍ خلال بلاده وجعله يزور قلاعه. وعندما وصلوا إلى القلعة التي تُدعى الرصافة، وهي أعظم القلاع التي يمتلكها، سأل (شيخُ الجبل) الكونتَ (هنري) قائلاً: "هل يطيعك رجالُك كما يطيعني رجالي؟". فأجابه الكونت: نعم. فقال مقدّم الحشيشية وسيِّدُهُم: لكنَّ رجالك لا ينفِّذون أوامرك مثلما ينفِّذ رجالي، وسأُريك ذلك. ثم أمسك حَرْبَةً بيده وأشار بها إليهم، فما كان من الذيــــــــــــــــــــــــــــن
_____________________________________
(9) ستيفن رنسيمان/ تاريخ الحروب الصليبية/ ج3، قسم1، تعريب السيد الباز العريني/ ص165.
______________________________________
كانوا واقفين على ظهر القلعة إلا أن ألقوا أنفسهم بالقناة فتحطَّمت أجسادهم. فعندما رأى الأمير (هنري) ذلك رجاه الَّا يكرِّر هذا العمل ثانيةً، فأشار (الحسنُ) إليهم فتوقَّفوا عن رمي أنفسهم. ثم دخلا إلى القلعة، وكان أمام مدخلها حاجزٌ حديدي، فالتفت سيد الحشيشية نحو الكونت وقال له: وسأُريك أيضاً كيف يطيعون أوامري. فألقى بملاءةٍ كانت في يده (ألقاها من أعلى القلعة)، كان قد أخذها من الرجال الواقفين أمام الباب، فألقى ثلاثةٌ أو أربعةٌ من رجاله بأنفسهم خلفها وانقضُّوا عليها فماتوا. فرجاه أيضاً الكونت هنري بالتوقُّف وألَّا يفعل ما فعله ثانيةً. وأقام الكونت هنري عنده فترةً طويلة، منحه خلالها سيدُ الحشيشية هدايا ثمينة، وفوق كل ذلك أكرمه وأكرم مَنْ كان معه غاية الإكرام، ومن هناك سافر الأمير (الملك هنري) إلى أنطاكية"(10).
_____________________________________
(10) ذيل تاريخ وليم الصُوْري/ ص474 – 475.
_____________________________________
على أنَّ ملك القدس الصليبي هنري دو شامباني لم يغادر قلعة الحشَّاشين مثقلاً بالهدايا الثمينة فحسب، وإنما أيضاً "مزوَّداً بوعدٍ ودّي من الحشيشية بأن يغتالوا كلَّ مَنْ يَذْكُر لهم (هنري) اسمَهُ من خصومه"(11). وهذا دليلٌ إضافي على أنَّ الحشَّاشين كانوا مرتزقةً غِبَّ الطلب، بل وأداةً بيد الصليبيين أيضاً.

رسالة زعيم الحشَّاشين تبرِّىء قلبَ الأسد

نأتي الآن إلى دليلٍ آخر يُلقي التهمة على ملك إنكلترا رتشارد قلب الأسد في اغتيال حاكم صور المركيز كونراد دو مونتفرَّات عن طريق الحشَّاشين أكثر مما ينفيها، ذلك أنَّ شيخ الجبل سنان راشد الدين كان سارع وأرسل رسالةً إلى دوق النمسا ليوبولد ينفي فيها باستماتةٍ مستغربة أن يكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون
_____________________________________
(11) ستيفن رنسيمان/ تاريخ الحروب الصليبية/ ج3، قسم1، ص166.
_____________________________________
الملك رتشارد قد كلَّفه باغتيال المركيز كونراد، وإنما يُعيد السبب إلى مشكلةٍ خاصةٍ حصلت بين الحشَّاشين وحاكم صور الراحل، وأنَّ اتِّهام قلب الأسد بأنه كلَّف الحشَّاشين بالإغتيال يُعْتَبَر ظلماً، ويُقْسِم على ذلك بأغلظ الأيمان، وإليكم نص الرسالة:
"إلى ليوبولد دوق النمسا، يبعث شيخ الجبل بتحيَّاته.
"بما أنَّ عدداً كبيراً من الملوك والأمراء في ما وراء البحار يلومون السيد رتشارد (قلب الأسد)، ملك انكلترا، من أجل وفاة المركيز (كونراد دو مونتفرَّات)، إنني أُقسم بالله الذي يحكم إلى الأبد، وبالشريعة التي نؤمن بها، أنه لا ذنب له في ذلك الموت، والسبب الذي أدى إلى موت المركيز هو هذا:
"كان واحدٌ من إخوتنا عائدٌ إلى مناطقنا من ساتاليا (أضاليا)، لكنَّ الريح دَفَعَتْهُ إلى صور، حيث أمر المركيز (كونراد دو مونتفرَّات) بأخذه وقَتْلِه، وسَلَبَ منه كثيراً من المال، وبعثنا إلى المركيز برُسُلِنا نُخْبِره أن يُعِيدَ مالَ أخينا إلينا، وأن يتَّفق معنا حول التعويض عن موته، لكنَّه لم يرغب بشيءٍ من هذا قط، زيادةً على ذلك لقد أبدى ازدراءً نحو رُسُلِنا، لا بل حتى اتَّهَمَنا بوفاة اللورد رينالد (أرناط) صاحب صيدا، علماً بأننا نعرف مِنْ رفاقٍ لنا أنه هو نفسه قَتَلَ رينالد وسَلَبَهُ، ثم بَعَثْنا إليه برسولٍ آخر اسمه ادريس، وقد أراد (كونراد) إغراقَهُ، لكنَّ رفاقنا ساعدوا الرسول للنجاة من صور، وعندها بادر إدريس مسرعاً إلينا وأخبَرَنا بالذي حدث، وأرَدْنا من تلك الساعة أن نقتل المركيز (كونراد دو مونتفرَّات)، وبناءً عليه بَعَثْنا بإثنين من إخواننا إلى صور، فقتلوه بشكلٍ مكشوف، وأمام شعب المدينة كلِّه تقريباً. لقد كان هذا السبب في قتل المركيز، ويمكننا أن نخبركم بصدقٍ بأنَّ رتشارد ملك انكلترا ليس مذنباً في موت المركيز، وأيُّ إنسانٍ يحاول أن يؤذيه بسبب هذه القضية، يقترف بذلك عملاً ظالماً وبدون مُسَوِّغ، واعْلَمْ بشكلٍ مؤكَّد أننا لم نقتل أيَّ إنسانٍ في هذا العالم مقابلَ أَجْرٍ أو مالٍ أو أي شيء، ما لم يكن قد سَبَّب لنا أولاً ضرراً. وكَتَبْتُ هذه الرسالة في قلعتنا مصياف، في منتصف شهر أيلول أمام إخوتنا، وقد خُتِمَت بخَتْمنا في سنة 1504 للإسكندر (588ه/ 1192م)"(12).
_____________________________________
(12) المؤرِّخ الإنكليزي الكاهن رالف أوف سيتو (توفي عام 598ه/ 1201م)/ صورة التاريخ/ ص265 – 266 (ورد هذا الكتاب ضمن الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية"، ج30).
_____________________________________
في هذه الرسالة تبرَّع زعيم الحشَّاشين للدفاع عن العدو الأول للعرب والمسلمين الملك الإنكليزي رتشارد قلب الأسد، الذي قاد الحملة الصليبية الثالثة للدفاع عن الوجود الصليبي في بلاد الشام بعدما تهدَّده صلاح الدين الأيوبي، وعوضاً عن ترك الخلاف يتصاعد داخل الممالك الصليبية راح زعيم الحشَّاشين يسعى بكل جهده لرأب الصَدْعَ في الجسم الصليبي والناجم عن اغتيال حاكم صور وملك القدس العتيد كونراد دو مونتفرَّات، مبرِّئاً قلبَ الأسد من دم الأخير. بيد أنَّ سنان راشد الدين أورد في رسالته عبارةً تدينه من ناحيتين، فهو قال: "إننا لم نقتل أيَّ إنسانٍ في هذا العالم مقابلَ أَجْرٍ أو مالٍ أو أي شيءٍ ما لم يكن قد سبَّب لنا ضرراً". فهو من ناحية أولى يعترف بأنَّ الحشَّاشين هم قَتَلَةٌ مأجورون، يقتلون مقابل أجرٍ أو مالٍ أو أي شيء، ومن هنا جاءت تسميتهم بالفدائية أو الفداوية، حيث أنهم "اشتُهروا باسم الفَداوِيَّة لمفاداتهم بالمال على مَنْ يَقتلونه"(13). ومن ناحيةٍ ثانية، أنَّ هذا الإعتراف يدين رتشارد قلب الأسد أكثر مما يبرِّؤه، فطالما هم كذلك، أي يتقاضون أجراً أو مالاً أو أي شيء ليقتلوا مَنْ سبَّب لهم ضرراً، وقد أضرَّهم كونراد دو مونتفرَّات حينما سَلَبَ منهم سفينتهم التجارية، فما المانع من أن يكون قلب الأسد قد أعطاهم أجراً أو مالاً أو أي شيء مقابل أن يقتلوا حاكمَ صور؟!
_____________________________________
(13) القلشندي/ صبح الأعشى في كتابة الإنشا/ ج13، ص245.
 ____________________________________
اللافت أنَّ المسؤول الصليبي الذي استلم رسالة زعيم الحشَّاشين سنان راشد الدين، وقبل أن يصار إلى إرسالها إلى دوق النمسا ليوبولد، كَتَبَ على هذه الرسالة مقطعاً تمهيدياً اعتبر فيه أنَّ ادِّعاء الحشَّاشين بأنهم هم مَنْ يتحمَّلون مسؤولية اغتيال كونراد دُوْنَ قلبِ الأسد إنما هو ادِّعاءٌ مزيَّف، وقد كَتَبَ بالحرف: "رسالةٌ قيلَ إنها جاءت من قائد الطائفة الإسلامية التي لا تعرف الرحمة، والتي تُدعى الحشيشية، وفيها ادِّعاءٌ أنهم هم الذين  يتحمَّلون مسؤولية قتل كونراد أوف مونتفرَّات وليس رتشارد الأول (قلب الأسد)، وهدفُها في تبرئةِ الملكِ الإنكليزي من الحادثِ زيفٌ واضح"(14). وهذا دليل على مدى اقتناع جمهورٍ كبير من الصليبيين آنذاك بأنَّ قلب الأسد هو من أوعز إلى الحشَّاشين أن يغتالوا حاكمَ صور.
_____________________________________
(14) رالف أوف سيتو/ صورة التاريخ/ ص265.
_____________________________________
هذا الدفاع المستميت من قِبَل زعيم الحشَّاشين عن قلب الأسد إنما يشكِّل دليلاً واضحاً على أنَّ سنان راشد الدين لم يكن يرغب في أن يخسر قلب الأسد حربَهُ ضد العرب والمسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، لأنَّ صلاح الدين إذا ما انتصر كان سيجعل الحشَّاشين يقعون تحت سيطرته وسطوته، وهو ما أضاء عليه المؤرِّخ ابنُ الأثير كما سنرى بعد قليل.

ملك فرنسا يخاف على نفسه من قلب الأسد

لقد بلغت قناعة الصليبيين بأنَّ رتشارد قلب الأسد هو الذي أوعز إلى الحشَّاشين أن يغتالوا حاكم صور كونراد دو مونتفرَّات، حداً جعل الإشاعةَ تسري حول نيَّة قلب الأسد اغتيال ملك فرنسا فيليب، ما جعل الأخير يتَّخذ الإحتياطات الأمنية. يقول المؤرِّخ المجهول: "وسَرَتْ إشاعةٌ أنَّ الملك رتشارد قد تآمر مع مقدَّم الحشيشية (شيخ الجبل سنان راشد الدين) ليُرسل رجالَه (الحشَّاشين) للفتك بملك فرنسا، ولا ندري مدى صحة هذه الأخبار. وقد اطَّلع ملكُ فرنسا (فيليب) على هذه المؤامرة، فما كان منه بعد أن سمع بذلك إلا أن شدَّد الحراسة حول نفسه، وهكذا لم يسمح لزمنٍ طويل لرجلٍ غريبٍ أو أجنبي من الإقتراب منه"(15).
_____________________________________
(15) ذيل تاريخ وليم الصُوْري/ ص424.
_____________________________________

شهادة ابن الأثير

أورد المؤرِّخ ابنُ الأثير – المعاصر لصلاح الدين – رأياً مغايراً تماماً حول اغتيال حاكم صور كونراد دو مونتفرَّات، حيث اعتبر أنَّ صلاح الدين هو مَنْ أوعز إلى الحشَّاشين باغتيال كِلَي الإثنين: حاكم صور والملك الإنكليزي رتشارد قلب الأسد، فإن لم يتمكَّنوا من قلب الأسد فاغتيال كونراد، فيقول: "وكان سبب قَتْلِهِ (أي قَتْل حاكم صور) أنَّ صلاح الدين راسلَ مقدّمَ الإسماعيلية (الحشَّاشين)، وهو سنان (راشد الدين)، أَنْ أَرْسِلْ مَنْ يقتُل ملك إنكلتار (ملك إنكلترا رتشارد قلب الأسد)، وإنْ قَتَلَ المركيس (كونراد دو مونتفرَّات) فَلَهُ عشرةُ آلاف دينار. فلم يُمْكِنْهُم قتلُ ملك إنكلتار، ولم يَرَهُ سنانُ مصلحةً لهم لئلا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنج ويتفرَّغ لهم، وشَرِهَ (طَمِعَ) في أخذ المالِ فَعَدَلَ إلى قتل المركيس (كونراد)"(16).
_____________________________________
(16) إبن الأثير/ الكامل في التاريخ/ ج10، ص213.
_____________________________________
ويبقى الأمرُ جائزاً، وخاصةً أنَّ صلاح الدين قد وعدهم بأن يدفع لهم مالاً للقيام بهذا الغرض، وكان يريد التخلُّص من اثنين يُعْتَبَرَان من أكبر قادة الصليبيين. كما أنَّ ابن الأثير كان صائباً في تحليله حينما ذكر أن لا مصلحة لزعيم الحشَّاشين في اغتيال الملك رتشارد قلب الأسد حتى لا تخلو الساحة لصلاح الدين ويتفرَّغ للحشَّاشين لإخضاعهم لسلطته، مع الإشارة إلى أنَّ هذا الأمر قد تمَّ لصلاح الدين لاحقاً في الصلح الذي عقده مع الصليبيين بزعامة قلب الأسد وعُرف بصلح الرملة في الثاني والعشرين من شعبان سنة 588ه/ الثاني من أيلول – سبتمبر 1192م، إذ كان مما تمَّ الإتفاق عليه أنَّ البلاد التي بأيدي الصليبيين هي لهم والبلاد الجبلية التي فيها القلاع (أي بلاد الإسماعيلية الحشَّاشين) تبقى بأيدي المسلمين.
أما ما ذَكَرَهُ ابنُ الأثير من أنَّ صلاح الدين قد وعدهم بدفع مبلغٍ من المال للحشَّاشين إن قتلوا حاكم صور، فلماذا لم يعدهم أيضاً بأن يدفع لهم مالاً لقاء قَتْلِهم قلب الأسد؟! فهم سيقتلون قلبَ الأسد مقابل ماذا؟!

رواية الحشَّاشين

في كتاب "اللفظ الشريف"(17)، وهو كتابٌ اسماعيليّ حشَّاشيّ، ترد رواية غير حقيقية حول ما جرى عقب مقتل حاكم صور، الهدف منها إظهار أنَّ العلاقة كانت متينة بين الحشَّاشين وصلاح الدين إلى درجة أن يكلِّفهم بعملية الإغتيال تلك، ومن ناحية ثانية إبعاد الشبهات عن الملك الإنكليزي قلب الأسد. ومفاد هذه الرواية أنَّ الحشاشَين الإثنين، اللذين اغتالا كونراد مونتفرات، قاما عقب ذلك باجتزاز رأس مونتفرات وخرجا من صور مسرعَين إلى أن دخلا على صلاح الدين ووضعا رأسَ كونراد دو مونتفرات بين يديه، وأنَّ صلاح الدين أصبح على اثر سماعه بذلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك
_____________________________________
(17) راجع كتاب "الإسماعيليون في بلاد الشام" لعثمان عبد الحميد العشري، ص173.
_____________________________________
الحادث فرحاً مسروراً، فطلب الحشَّاشَيْن فلما حَضَرا قام قائماً لهما وعظَّم قدرَهما وقام وزراؤه وجلساؤه لقيامه لهما ثم خلع عليهما وأحسن إليهما وأجلسهما إلى جانبه، وأنَّ صلاح الدين أمر بأن يُكتب للدعوة الإسماعيلية الحشَّاشية في كل معاملة من المعاملات القريبة إلى قلاع الدعوة عشرة ضيع ويُبنى لبيت الدعوة الحشَّاشية في كل مدينة من المدن دار دعوة في مصر ودمشق وحمص وحماة وحلب وغيرها من المدن، وأنَّ صلاح الدين سيَّر إلى سنان راشد الدين هدية سَنِيَّة.
نريد تذكيركم فقط بأنَّ الحشَّاشَين الإثنين، وكما ذكر كل المؤرِّخين الصليبيين والمسلمين، قد قُتِلا على الفور، وبذا تَبْطُل هذه الرواية.

قلب الأسد ينجو من الحشَّاشين

لم يكن ملك إنكلترا رتشارد قلب الأسد وحده مَنْ وضعه الصليبيون في خانة الإتهام من ناحية استخدام الحشَّاشين لغرض اغتيال خصومه المسيحيين، بل إنَّ ملك فرنسا فيليب أوغسطس أيضاً اتُهم بدوره باستخدام الحشَّاشين في محاولة اغتيال رتشارد قلب الأسد. ففي عام 592ه/ 1195م "ولدى وجود رتشارد ملك إنكلترا في مدينة شينون الفرنسية، زعموا أنهم عثروا على خمسة عشر رجلاً جاؤوا إلى بلاطه بهدف قَتْلِه. وعندما أوقف هؤلاء الرجال اعترفوا بأنهم حشَّاشون يعملون لحساب (ملك فرنسا) فيليب"(18). مع الإشارة هنا إلى أنَّ عداءً استحكم بين الصديقين اللدودين رتشارد وفيليب بسبب نكث رتشارد بوعده بالزواج بأخت فيليب، حيث فوجىْ الأخير بزواج رتشارد بامرأةٍ أخرى.
____________________________________
(18) د. سميرة بن عَمُّو/ أَلَمُوت وإيديولوجيا الإرهاب الفدائي/ ص9/ طبعة دار مجد، بيروت، 1992.
____________________________________
الحديث التالي:
الحديث السابق:








 x

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق