الآن، أعاد غازان الكرَّة للمرة الثالثة بعد عامين، أي
سنة 702ه/ 1302م، فاستولى على الرَحْبة ثم عاد إلى الشرق، فيما بقي قسمٌ من جيشه
هاجَمَ أطرافَ حلب، ثم اتجه جنوباً باتجاه حماة وحمص، فخرجت إليهم طائفةٌ من
العساكر الإسلامية (المملوكية والعربية) استطاعت كسرهم في بلدة عُرْض (من أعمال
حلب).. إلى أن وقعت المعركة الكبرى في مرج الصُفَّر بالقرب من نهر الصُفَّر جنوب
دمشق، ونعتبرها واحدة من أهم المعارك في العصر الإسلامي الوسيط، حيث هَزَمَ العربُ
المسلمون بقيادة السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون جيشَ التتار هزيمةً نكراء
كان من أثرها أن خيَّبت آمالهم لعشرات السنين في احتلال بلاد الشام..
إنزل إلى أسفل لقراءة الموضوع كاملاً
أعداء
العروبة والإسلام يتشيَّعون
التتار
نموذجاً
(دراسة
تاريخية)
2015
تأليف:
حسين احمد صبرا
أعداء العروبة والإسلام يتشيَّعون (3 من 15)
موقعة مرج الصُفَّر جنوب دمشق:
إنتصارٌ للعرب والمسلمين
على حكَّام إيران التتار المتأسلمين
حسين احمد صبرا
بعد إعلانه الإسلام دينَ دولةِ التتار في إيران، قام
حاكم إيران التتري المتأسلم محمود غازان بمحاولة أولى لغزو بلاد الشام سنة 699ه/
1299م على أمل أن يسيطر بعدها على مصر وبلاد الحجاز، ويحكم التتارُ العربَ
المسلمين هذه المرة بإسم الإسلام.. ثم أعاد غازان محاولته الثانية عام 700ه/
1300م/ وهو ما أتينا على ذكره في الحديث الماضي..
والآن، أعاد غازان الكرَّة للمرة الثالثة بعد عامين، أي
سنة 702ه/ 1302م، فاستولى على الرَحْبة ثم عاد إلى الشرق، فيما بقي قسمٌ من جيشه
هاجَمَ أطرافَ حلب، ثم اتجه جنوباً باتجاه حماة وحمص، فخرجت إليهم طائفةٌ من
العساكر الإسلامية (المملوكية والعربية) استطاعت كسرهم في بلدة عُرْض (من أعمال
حلب).. إلى أن وقعت المعركة الكبرى في مرج الصُفَّر بالقرب من نهر الصُفَّر جنوب
دمشق، ونعتبرها واحدة من أهم المعارك في العصر الإسلامي الوسيط، حيث هَزَمَ العربُ
المسلمون بقيادة السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون جيشَ التتار هزيمةً نكراء
كان من أثرها أن خيَّبت آمالهم لعشرات السنين في احتلال بلاد الشام.. وللعلم،
فإنَّ المؤرِّخ النويري ذكر عن موقعة مرج الصُفَّر جنوب دمشق بين التتار وجيش محمد
ابن قلاوون وخاصةً أنَّ النويري شهد هذه المعركة وكان مشاركاً فيها في ميسرة الجيش
المملوكي، وقد ذكر ذلك بالتفصيل في كتابه "نهاية الأَرَب"، الجزء 32، من
ص16 إلى ص20، (طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 2004).. كما أنَّ القاضي ابن عبد
الظاهر ألَّف كتيِّباً عن موقعة مرج الصُفَّر
تلك من نحو عشرين صفحة بعنوان "الروض الزاهر في غزوة الملك
الناصر"، وقد أورده النويري كاملاً في كتابه "نهاية الأَرَب"، ج32،
من ص20 إلى ص38.. وفي هذا الكتيِّب أورد ابن عبد الظاهر قصيدةً قالها في هذه
المناسبة قاضي عجلون وخطيبها (عجلون هي اليوم من مدن جنوب الأردن) نورد أول تسعة
أبيات منها، وهي من البحر البسيط: الله أكبرُ جاء النصرُ والظَفَرُ/ والحمد لله،
هذا كنتُ أنتظرُ/ وأَبْرَزَ القَدَرَ المحتومَ بارئُهُ/ سبحانَهُ، بيَدَيْهِ
النَفْعُ والضَرَرُ/ وهَوَّنَ الصَعْبَ بالفتحِ المُبينِ لكم/ ربٌّ يَهُونُ عليه
المُقْفَلُ العَسِرُ/ ولم تَزَلْ شِرْعَةُ الإسلامِ ظاهِرَةً/ أُجْزُمْ بِهِ،
فبهذا صُحِّحَ الخَبَرُ/ أينَ النجومُ وتأثيرُ القِران وما/ تَخَرَّصوا فيهِ من
إفْكٍ وما زَجَروا/ قد دَبَّرَ الله أمراً غيرَ أَمْرَهُمُ/ وخابَ ما زَخْرَفوا
فينا وما هَجَروا/ وأَقٍبَلَ العَسْكَرُ المنصورُ يَقْدمُهُ/ من الملائكِ جُنْدٌ
ليس تَنْحَصِرُ/ وقد أحَفُّوا بِهِ والأرضُ من زَجَلٍ/ تَرْتَجُّ إنْ سَجدوا لله
أو ذَكَروا/ كَنَانَةُ اللهِ مَصْرٌ جُنْدُها ثَبَتَتْ/ لا رَيْبَ فيهِ وجُنْدُ
الله تَنْتَصِرُ/ ...
وقد ذكر ابن فضل الله الشيرازي – المعروف بـ"وصَّاف
الحضرة" – في كتابه "تجزية الأمصار وتزجية الأعصار"، المعروف
بـ"تاريخ وصَّاف"، أنَّ عدد قتلى التتار في موقعة مرج الصُفَّر بلغ 10
آلاف قتيل و20 ألف أسير.. أما المؤرِّخ ابن فضل الله العُمَري فيقول عن هذا
الإنتصار على التتار في مرج الصُفَّر في "مسالك الأبصار": "فَوَالله
ما ذُقْنا يوماً أحلى منه، ولا أَمَرَّ من الذي قبله" (دار الكتب العلمية، بيروت، 2010، ج27،
ص326).. وحديثاً، ذكرت المحقِّقة دوروتيا كرافولسكي في مقدِّمة دراستها وتحقيقها
لكتاب المؤرخ ابن فضل الله العمري "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" (تعريب د. رضوان السيد، 1986) ما يلي:
"هناك حقيقة يجب أن نقرِّرها وهي أنَّ المواجهة الطويلة نسبياً بين
المغول والمماليك كانت حدثاً تاريخياً ترك آثاره الواضحة في أذهان الناس ونمَّى
لديهم إحساساً عميقاً بالقومية العربية والإسلامية، وشعوراً فيَّاضاً بالفخر
والزهوّ بالإنتصارات الرائعة التي أحرزها المصريون والسوريون في مصر والشام اعتماداً
على كفاح الشعوب في هذه المنطقة وخارجها، كما أَبْرَزَ فاعلية الأبطال ودورهم
اللامع المُشرق في التاريخ".
وقبل أن نختم حديثنا عن حاكم إيران التتري غازان
وتأسلمه، نود أن نورد مقتطفاتٍ من نص الفرمان الذي أرسله غازان هذا إلى أهل دمشق
قبيل غزوه للمدينة في ربيع الآخر سنة 699ه (كانون الثاني/ يناير سنة 1300م) (أورده
النويري في "نهاية الأَرَب"، ونقله عنه المقريزي في "السلوك لمعرفة
دول الملوك"، كما نُشر ملحقاً من قبل محقِّق كتاب "النجوم الزاهرة"
لابن تغري بردي في نهاية الجزء الثامن/ طبعة دار الكتب العلمية، 1992).. نريد منكم
قراءة ما جاء في هذا الفرمان بعناية شديدة، لتروا بأم أعينكم كيف بات حكام إيران التتار
الآن يغزون بلاد العرب المسلمين بإسم الإسلام(!!):
"ليَعْلَم أُمراءُ (جيوشنا) وعموم عساكرنا المنصورة
من المغول والتازيك (الفُرس) والأرمن والكَرْج، وغيرهم ممَّن هو داخلٌ تحت ربقة
طاعتنا، أنَّ الله لمَّا نَوَّر قلوبنا بنور الإسلام، وهدانا إلى ملَّة النبي عليه
أفضل الصلاة والسلام، "أَفَمَنْ شَرَحَ صدرَهُ للإسلام فهو على نورٍ من
ربِّه، فويلٌ للقاسيةِ قلوبُهم من ذِكْرِ الله، أولئك في ضلالٍ مُبِين" (سورة
الزُمَر، الآية 22).
"ولمَّا أنْ سَمِعْنا أنَّ حكَّام مصر والشام
خارجون عن طريق الدين، غيرُ متمسِّكين بأحكام الإسلام، ناقضون لعهودهم، حالِفُون
بالأَيمان الفاجرة، ليس لديهم وفاءٌ ولا ذِمام (حُرْمة)، ولا لأمورهم التئامٌ ولا
انتظام. وكان أحدهم إذا تولَّى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويُهْلِكَ الحرثَ والنسل،
والله لا يحبُّ الفساد؛ وشاع من شعارهم الحيف على الرعيَّة، ومدُّ الأيدي
العاديَّة إلى حريمهم وأموالهم، والتخطّي عن جادة العدل والإنصاف، وارتكابهم الجور
والإعساف، حَمَلَتْنَا الحَمِيَّة الدينية، والحفيظة الإسلامية، على أن تَوَجَّهْنا
إلى تلك البلاد لإزالة هذا العدوان وإماطة الطغيان، مستصحبين الجَمَّ الغفير من
العساكر.
"ونَذَرْنا على أنفسنا إنْ وَفَّقَنا اللهُ تعالى
بفتح تلك البلاد، أَزَلْنا العدوانَ والفساد، وبَسَطْنا العدلَ والإحسانَ في
كافَّة العباد، ممتثلاً للأمر الإلهي "إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ
وإيتاء ذي القُرْبى وينهى عن الفحشاء والمُنْكَر والبَغْي، يَعِظُكُم لعلَّكم
تَذَكَّرون" (سورة النحل، الآية 90)، وإجابةً لِما نُدِبَ إليه الرسول صلى
الله عليه وسلَّم: إنَّ المُقْسِطين عند الله على منابرَ من نورٍ عن يمين الرحمان،
وكلتا يديه يمين، الذين يَعْدِلُون في حُكْمِهم وأهلِيهم وما وَلُوا.
"وحيث كانت طويَّتُنا مشتملةٌ على المقاصد الحميدة
والنذور الأكيدة، مَنَّ الله علينا بِتَبَلُّجِ تباشير النصر المُبين والفتح
المستبين، وأتمَّ علينا نعمَته وأَنْزَلَ علينا سَكِينَته، فقَهَرْنا العدوَّ
الطاغية والجيوشَ الباغية وفَرَّقْناهم أَيْدي سَبَأ، ومزَّقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ،
حتى جاء الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كان زَهُوقاً؛ فازدادت صدورُنا
انشراحاً للإسلام، وقَوِيَت نفوسُنا بحقيقة الأحكام، منخرطين في زمرة مَنْ حَبَّبَ
إليهم الإيمان، وزيَّنَهُ في قلوبهم وكَرَّهَ إليهم الكُفْرَ والفسوقَ والعصيان،
أولئك هم الراشدون، فضلاً من الله ونعمة"... (إلى آخره).
وفي
الختام، هل لاحظتم قول حاكم إيران التتري المتأسلم غازان: "حَمَلَتْنَا الحَمِيَّة الدينية، والحفيظة الإسلامية،
على أن تَوَجَّهْنا إلى تلك البلاد (أي بلاد الشام) لإزالة هذا العدوان وإماطة
الطغيان"!!
الحديث
التالي:
الحديث السابق:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق