بيد أننا نرى في
الأحداث التي تلت إعلان غازان الإسلامَ دينَ دولة المغول والتتار (عام 694ه/ 1294)
مؤامرةً كبرى على العرب المسلمين، إذ لم يلبث غازان أن شنَّ الحملات المتتالية
لاحتلال بلاد الشام، على أن يُصار بعدها إلى احتلال مصر وبلاد الحجاز ليحكم التتار
بلاد العرب المسلمين كلَّها، لكن محاولاته كلها باءت بالفشل بفضل تصدي حاكم مصر
وبلاد الشام والحجاز السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون.
إنزل إلى أسفل لقراءة الموضوع كاملاً
أعداء
العروبة والإسلام يتشيَّعون
التتار
نموذجاً
(دراسة
تاريخية)
2015
تأليف:
حسين احمد صبرا
أعداء
العروبة والإسلام يتشيَّعون (2 من 15)
حاكم
إيران التتري غازان أراد هذه المرة
احتلال
بلاد العرب المسلمين تحت راية الإسلام!
حسين احمد صبرا
ذكرنا في الحديث
الماضي أنَّ أول مَنْ أسلم من التتار كان توكدار بن هولاكو، وقد تسمَّى بإسم أحمد
وبات يُطلق عليه تسمية السلطان أحمد بن هولاكو، وقد حكم الدولة المغولية في إيران
لنحو ثلاثة أعوام، أي منذ مطلع عام 681ه/ 1282م وحتى منتصف عام 683ه/ 1284م.. وقد
قتله التتار بسبب ما أرغمهم عليه من الدخول في الإسلام..
نذكر أنه بعد مقتل
أحمد بن هولاكو (توكدار) تسلَّم الحكم في الدولة المغولية في إيران ابنُ أخيه
واسمه أرغون بن أَبْغَا بن هولاكو، وقد حكم ما بين عامي 683ه/ 1284م وحتى عام 690ه/ 1291م، وكان على دين التتار الوثني وظلَّ كذلك..
إلى أن وصل إلى الحكم في إيران عام 694ه/ 1294م ابنُ أرغون واسمه غازان، وقد استمر
حكمه تسع سنوات (أي حتى عام 703ه/ 1303م)، حيث كان أول حاكم تتري يُعلن الإسلامَ
ديناً رسمياً للدولة..
يُجمع معظم المؤرِّخين
المعاصرين لتلك الفترة على أنَّ نوروز التركي الأصل، وهو نائب غازان ووزيره
ومُدَبِّر مملكته وبعل عمَّته، لعب دوراً رئيساً في إقناع غازان باعتناق الإسلام
وإعلانه الدين الرسمي للدولة المغولية في إيران، وذلك لحظة استلامه السلطة في
إيران، وتسمَّى بإسم "محمود"، ويردف الذهبي في كتابه "تاريخ
الإسلام" قائلاً: "وفشى الإسلامُ في جيشه بحرص نوروز" (طبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2003، ج15، ص691) .. وكان غازان قبلها قد نشأ وتربَّى
على الديانة البوذيَّة، كما ذكر مؤرخ المغول الكبير رشيد الدين الهمذاني في
"جامع التواريخ"، وهو الكتاب الذي طلب منه غازان نفسُهُ أن يؤلِّفه عن
المغول، ويتابع الهمذاني قائلاً: "ولكنه نظراً لتمكُّنه وتثبُّته ظلَّ
سائراً على تلك الطريقة البوذية، وكان في هذا المجال متمكِّناً وثابت القدم. وبسبب
غُلُوِّه في تلك العقيدة أقام معابدَ عالية للأصنام في خبوشان بخراسان، وكان يؤدي
طقوسها بصورةٍ جعلت جميع اللامات والرهبان متعجِّبين مندهشين من تلك الرياضات
والمشقّات" (ص185 من النسخة الإلكترونية، الموافقة لـ ص296 من النسخة
الأصلية، تعريب د. فؤاد عبد المعطي الصياد).. ثم قام بالأعمال الهمجية التي
اشتُهرت عن العرق التركي، إذ لم يلبث أن أمر بتدمير الكنائس المسيحية واليهودية،
كما أمر بتحطيم الهياكل والأصنام البوذية وأجبر البوذيين على الدخول في الإسلام!
بيد أننا نرى في
الأحداث التي تلت إعلان غازان الإسلامَ دينَ دولة المغول والتتار (عام 694ه/ 1294)
مؤامرةً كبرى على العرب المسلمين، إذ لم يلبث غازان أن شنَّ الحملات المتتالية
لاحتلال بلاد الشام، على أن يُصار بعدها إلى احتلال مصر وبلاد الحجاز ليحكم التتار
بلاد العرب المسلمين كلَّها، لكن محاولاته كلها باءت بالفشل بفضل تصدي حاكم مصر
وبلاد الشام والحجاز السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون.
وفعلاً، لم تكد تمر
خمس سنوات على حكم غازان وإعلانه الإسلام دين دولة التتار، وبعدما وطَّد حكمَهُ في
إيران والبلدان المحيطة بها في الشمال، بالإضافة إلى العراق، شنَّ حاكم إيران
التتري المتأسلم محمود غازان (حفيد هولاكو وجنكيزخان) حرباً سنة 699ه/ 1299م استولى خلالها على البلاد الشامية ثم
عاد عنها، فلقد سار بجيشه نحو حلب، ثم تقدَّم إلى مجمع المروج بالقرب من حمص، وهناك
وقعت المعركة بين غازان وسلطان مصر المملوكي محمد بن قلاوون، فاقتتلوا قتالاً
شديداً وكانت النتيجة أن انهزم قلاوون رغم أنَّ أعداد القتلى بين التتار كانت أكبر
بكثير [وَصَفَ المؤرخ المملوكي بيبرس المنصوري هذه المعركة في كتابه "مختار
الأخبار" (طبعة الدار المصرية اللبنانية، 1993، ص111) بأنها "كانت
قادحةً (أي طعنةً) شديدةً على الإسلام ونائبةً عظيمة نابت الأنام، ولم يُقتَل في
هذه المعركة سوى القليل"].. ثم توجَّه غازان إلى حمص، التي تسلَّمها بدون
حرب، وبعدها توجَّه إلى دمشق ونزل بالغوطة، وجبى من دمشق أموالاً لا تُحصى، لكنه
فشل في احتلال قلعتها.. وهنا يقول المؤرخ ابن فضل الله العمري في كتابه
"مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" عن استباحة غازان لدمشق: "ثم دخلت التتار دمشق، وشَرَعوا في
المصادرة والعسف، ونهبوا الصالحية وسَبُوا أهلَها، وتغيَّر الخَلْق، ووقع الحريق
من صاحب سيس والكَفَرة (يقصد الأرمن)، فأحرقوا جامع العُقَيْبيَّة وعدة أماكن،
وحاصروا القلعة (قلعة دمشق)، وعملوا المجانيق والنقوب (...) وبات الخَلْقُ في
ليلةٍ اللهُ بِهِم عليم، ثم أنَّ الله لَطَفَ وألقى في قلب قازان أنْ أَمَرَ بالكف
عن دمشق، وصمَّم على ذلك وأَخَذَ (من أهل دمشق أموالاً طائلة)، وأسروا من الصالحية
نحو الأربعة آلاف نسمة، وقتلوا بها نحو الثلثماية أكثرُهُم في التعذيب على المال
(أي عذَّبهم التتارُ لأنهم لم يدفعوا المال ثم قتلوهم)، ودخل الباقون في جوعٍ
وعُرْيٍ وبردٍ مفرط، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فلقد جرى ما لا يُعَبَّر عنه،
وغَلَت الأسعار، وافتقر الخَلْقُ، ثم ترحَّلت التتار من الشام بالسَبْي والمكاسب
وقد استغنوا" (طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 2010، ج27، ص321 - 322)..
وقد كتب غازان فرمانات إلى سائر القلاع والحصون الشامية
والساحلية في تسليمها، لكنَّ أحداً لم يستجب إليه، واللافت في الأمر أنه كان يبدأ
كلَّ فرمان بقوله بعد البسملة: "بقوَّة الله تعالى وميامين الملَّة
المحمَّدية، وأَظْهَرَ فيها شعائر الإسلام واتِّباع السُنَّة".. ثم راح
يعيِّن نواباً لمملكته وذلك في دمشق وحلب وحماة وحمص وطرابلس (شمال لبنان حالياً)
وصفد (شمال فلسطين حالياً) وساحل بلاد الشام، وتوجَّه جزءٌ من عسكره إلى الأغوار
وصولاً إلى مشارف القدس ونابلس انتهاءً بغزة.. بعدها رحل غازان عائداً إلى الشرق
بعد مضي شهرين على غزوه بلاد الشام، ثم لحق به بقية التتار لمَّا بلغهم أن الملك
الناصر محمد ابن قلاوون انتهى من تجهيز جيوشه لدحرهم..
لم يلبث ملك التتار غازان أن أعاد الكرَّة في العام
التالي (سنة 700ه/ 1300م)، حيث وصل إلى حلب ثم تقدَّم جنوباً ليتوقَّف بين حلب
وحماة.. وفي هذه الأثناء خرج محمد بن قلاوون من مصر ونزل بالقرب من غزة، فانسحب
غازان إلى الشرق.. وهنا يقول ابن فضل الله العمري في "المسالك" (ج27،
ص323): "سنة سبعمائة كَثُرَت
الأراجيف (أي الأخبار السيِّئة التي تُهَيِّج الناس) لمجيء التتار وانْجَفَلَ
الناسُ (هَرَبوا)، واشتدَّ الأمر(...) ووصل غازان إلى حلب مستهل جمادى الأولى،
والناسُ في حالٍ لا يعلمها إلا الله (...) وانجَفَلَ الغنيُّ والفقير، ومَرُّوا
إلى دمشق في الأسواق (...) (ونودِيَ):مَنْ قَدَرَ على السَفَر فليبادر، ثم نودي
بذلك في دمشق، وصاح النساءُ والأطفال، وأُغلق البلد، وازدحم الخَلْقُ بالقلعة
(قلعة دمشق) واقتسموا طُرُقَها بالسير، ثم بعد يومين خرجوا من شدَّة الحرج
والضَنْك (ضيق العيشة)، وسافر أعيان البلد (...) وفي تاسع عشر الشهر (جمادى
الأولى) (...) صحَّت الأخبار برجوع قازان من حلب، فبَلَعَ الناسُ رِيْقَهُم
وتَرَجّوا كَشْفَ الضُرِّ من الله".
الحديث التالي:
الحديث السابق:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق