لقد تقدَّم الشاعر الغنائي المصري سمير
محجوب في الخمسينيات لخطبة إحدى الفتيات، وكان سمير محجوب صاحب بشرة سمراء داكنة،
فهو من بلاد النوبة جنوب مصر، فتمَّ رفضه بسبب لون البشرة (تماماً كما تمَّ رفض
عنترة بن شداد قبل ألف وخمسمائة عام)، فحوَّل سمير محجوب هذا الأمر إلى أغنية طرح
فيها هذه المسألة للنقاش محاولاً الإقناع بسمار البشرة، وقد غنَّتها المطربة صباح
في فيلم "نهاية حب" عام 1957، وهي من ألحان الموسيقار محمد الموجي..
يقول سمير محجوب في المطلع: أسمر أسمر، طيِّب مالُه؟!/ والله سمارُه سِرّ جمالُه/
ما دام حبيبنا وحَيْنَاسِبْنَا/ مالُه الأسمر؟!
إنزل إلى أسفل لمتابعة القراءة
معركة غنائية حول البيض والسُمر (1 من 4)
قالوا البياض أحلى
ولَّا السَمار أحلى؟!
حسين احمد صبرا
لا يقتصر العشق لذوي أو ذوات البشرة
البيضاء أو البشرة السمراء على الذوق فحسب، وإنما يتخطاه إلى ما هو أبعد من ذلك،
لتصبح الأمور شديدة التعقيد..
في الهند مثلاً، تُنْفِق النساء
الهنديات مليارات الدولارات سنوياً لشراء مستحضرات تبييض البشرة، الأمر الذي لا بد
أن نضعه في خانة عقدة النقص من القوي ألا وهو العالم الغربي، حيث يطغى على
الغربيين نساءً ورجالاً لونُ البشرة البيضاء والشعر الأشقر والعيون الملوَّنة..
وهذا هو الحال الآن لدى كل الشعوب التي يطغى على بشرتها اللون الأسمر، بمن في ذلك
نحن العرب، ذلك أنَّ الرجل فيها بات ميّالاً إلى الإعجاب بالبشرة البيضاء بفعل
الإعجاب بنساء المجتمعات الأقوى (بالأمس كنا معجبين بنساء الأتراك البيض)، و
النساء فيها باتت ميّالةً إلى تقليد نساء هذه المجتمعات الغربية في كل شيءٍ
تقريباً حتى بلون البشرة (ولون الشعر والعيون، إلى آخره)، مع الإشارة إلى أنْ ليس
لدينا أي اعتراضٍ على ذلك..
لكنَّنا نجد في المقابل نساءَ الغرب
يُنْفِقْنَ مليارات الدولارات لشراء مستحضرات تعمل على اسمرار البشرة وهو ما
يسمَّى بالأجنبية "البرُنْزاج"، وخاصةً مع تعريض الجسم لأشعة الشمس،
وكذلك تعريض الجسم للأشعة البنفسجية في عيادات العلاج الفيزيائية، أو استخدام
المراهم، وكل ذلك لأنَّ رجال الغرب لا يرون في البشرة البيضاء إثارة جنسية كتلك
التي يرونها في البشرة الحنطية والسمراء المنتشرة بكثرة ما فوق خط الإستواء وخاصة
في أميركا الجنوبية ومعظم الدول العربية وصولاً إلى الهند وما حولها.. هذا الموقف
الإيجابي من رجال الغرب تجاه البشرة السمراء دليل صراحة مع النفس أولاً من حيث
تفضيل البشرة الأكثر إثارة، ودليل مراجعة للذات ثانياً من حيث أنَّ الغرب وقف في
العقود والقرون التي مضت مواقف عنصرية مقيتة ضد ذوي البشرة الملوَّنة وخاصةً
البشرة السوداء التي تُمَيِّز أغلب القارة الأفريقية، وهي العنصرية التي وصلت إلى
حد الإستعباد والقهر والتمييز والإزدراء وصولاً إلى سفك الدماء، وكل ذلك بسبب
اختلاف لون البشرة..
تمييز عنصري
سمير محجوب |
ما نريد قوله أنَّ البعض في مجتمعاتنا
العربية يعرف بعض الشيء أنواعاً من هذا التمييز العنصري بسبب لون البشرة، وخاصةً
في مسائل الزواج.. لقد تقدَّم الشاعر الغنائي المصري سمير محجوب في الخمسينيات
لخطبة إحدى الفتيات، وكان سمير محجوب صاحب بشرة سمراء داكنة، فهو من بلاد النوبة
جنوب مصر، فتمَّ رفضه بسبب لون البشرة (تماماً كما تمَّ رفض عنترة بن شداد قبل ألف
وخمسمائة عام)، فحوَّل سمير محجوب هذا الأمر إلى أغنية طرح فيها هذه المسألة
للنقاش محاولاً الإقناع بسمار البشرة، وقد غنَّتها المطربة صباح في فيلم
"نهاية حب" عام 1957، وهي من ألحان الموسيقار محمد الموجي.. يقول سمير
محجوب في المطلع:
صباح تغني للأسمر شكري سرحان "أسمر أسمر طيب ماله" في فيلم "نهاية حب" فيما يبدو الأبيض عبد السلام النابلسي معترضاً (صورة إلتقطتُّها من الفيلم) |
أسمر أسمر، طيِّب مالُه؟!/ والله
سمارُه سِرّ جمالُه/ ما دام حبيبنا وحَيْنَاسِبْنَا/ مالُه الأسمر؟!
ثم يتابع في باقي المقاطع: "ما
فيش في الدنيا ف سمارُه/ ولا حتى ف رِقِّتُه/ خلاص أنا قلبي اختارُه/ وده بختي
وقسمتي".. "لقيت القلب نادى لُه/ والقلب بيعبده/ حِلِفْ لُه بِضَيّ
جمالُه/ يرضيه ويسعدُه".. "إنْ عابُوا عليَّ غرامه/ خليهم يسألوا/ عن
قلبي وعن أحلامه/ ده هنايا بأوِّلُه".
إنقسام اجتماعي
سعاد مكاوي |
ولا يغيب عنَّا أنَّ الإنقسام موجودٌ
في مجتمعنا العربي بين حزبٍ يؤيد السمار وحزبٍ آخر يؤيد البياض، وهذا الإنقسام
أكثر ما يتم التعبير عنه في الأسماء التي تُطلَق على المواليد الإناث – كما في مصر
مثلاً – فمنهم مَنْ يُسمِّي ابنته "سمارة" تغنياً بالسمار، ومنهم مَنْ
يُسمِّيها "بياضة" تغنياً بالبياض.. والأهم أنه يتم التعبير عنه في
أمورٍ جدية ومصيرية كالحب والزواج، وقد عبَّر عن هذا الإنقسام الشاعر أبو السعود
الأبياري في أغنية لحَّنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب للمطربة سعاد مكاوي في
فيلم "بلد المحبوب" عام 1951: "قالوا: البياض أحلى ولا السمار
أحلى/ (ثم يأتي الرد المنطقي السليم) قلت: اللي شاريني جُوَّه العيون
يِحْلَى".
أبو السعود الأبياري |
وقد نجح أبو السعود الأبياري في تحقيق
توازنٍ في هذه الأغنية ما بين السمار والبياض كسعيٍ منه للصلح بين اللونين، فنجده
في البداية يتغنى بالسمار قائلاً: "لما ناداني الهوى/ يا اسمر وحبيتك/ لاقيتك
إنتَ الدوا/ وبقلبي خبيتك/ ده الفؤاد خالي/ والوحدة تحلالي/ لمَّا انشغل بالي/
صَبَح الهوى أحلى".. ثم يتغنَّى بالبياض: "يا فُلّ مين يسلاك/ لونك
مفرَّحني/ خالي من الأشواك/ لكن بتجرحني/ مهما يطول غُلْبي/ ما تهونش على قلبي/
صابر على حبي/ والصبر بيك يحلى".
وعلى المنوال نفسه غنَّى محمد عبد
المطلب أغنيةً بعنوان "سألوني بتحب السُمر ولَّا انتَ بتحب البيض"
(ونجهل مؤلفها وملحنها)، فيجيب بإجاباتٍ منطقية جداً:
محمد عبد المطلب |
"سألوني بتحب السُمر/ ولَّا انتَ
بتحب البيض/ قلت لهم مش كل السُمر بيتحبُّوا/ ولا كل البيض".. ثم يغنِّي في
المقطع الأول: "يا حبيبي الحب نغم بيتغنَّى بين قلبين/ تنده لُه العين
بنَعَم/ والقلب يقول نعمين/ ويا ما ناس بتعشق وتحب الأسمراني/ وناس تانيين بتهوى/
وتحب الأبيضاني/ برأيي مش كل السُمر بيتحبوا ولا كل البيض"..
ثم المقطع الثاني: "ما أقدرش أقول
لك/ مين اللي قلبك يرتاح إليه/ ما تقول لقلبك واسأل وشوف/ وحيقول لك إيه/ ما أقدرش
أقول لك غير هيَّ كلمة/ وبرأيي مش كل السُمر بيتحبوا ولا كل البيض".
التصالح بين اللونين
فريد الأطرش |
وإذا ما كان أبو السعود الأبياري قد
دعا إلى التوازن بين البياض والسمار، فإنَّ الأمر محسومٌ مسبقاً لدى الشاعر
الغنائي أنور عبد الله حينما راح في أغنية "أنا بلبل" للموسيقار خالد
الذِكر فريد الأطرش (في فيلم "بلبل أفندي" عام 1948) يتغزَّل باللونين
معاً وقد وقع في غرام كلٍّ من السمراوات والبيضاوات في وقتٍ واحد، بادئاً
بالتغزُّل بالسمراوات: "أحلف يا قمحيَّة/ إن السَمَار خمرة/ بس السمار
غِيَّة/ والفتنة في البودرة".. ثم يتغزَّل بالبيضاوات: "أما انتِ يا
شقرا/ يا بدر غاب ظلُّه/ جودي هنا بنظرة/ تِلْقي الجمال كلُّه".
عبد الغني السيد |
وعلى هذا المنوال صاغ الشاعر الغنائي
محمد علي أحمد أغنية المطرب عبد الغني السيد "البيض القَمَارة والسُمْر
العذارى" (من ألحان الموسيقار محمود الشريف في فيلم "ضحِّيت غرامي"
عام 1951)": "البيض القمارة جَنُوا وظلموني/ والسمر العذارى يا ريت
ينصفوني".
ثم يبدأ محمد علي أحمد بالتغني بالإناث البيضاوات: "البيض جَرَّحوني
برمش العيون/ راحُم وفاتوني لدهر الظنون/ يا بدر تحت سماك، عالي وعندي دواه/ أمانة
تبعت ضياك للي ظلمني هواه/ بلَّغهم سلامي وادِّيهم أمارة/ أشواقي وهيامي وليل
الحيارى/ كاس الزمن بِيدُور/ ما حد غاب عنُّه/ اصبر على المقدور/ فين رح تروح منُّه"..
وبعدها يتغنى بالإناث السمراوات: "السمر لاقوني/ ح اطُول الوداد/ بإيديهم سقوني/ مرار البعاد/ قولوا لي أسأل مين/ على اللي راح مني/ وفين ديارهم فين/ يا مين يوصَّلني/ الورد المدوَّر/ بخدود القمارة/ تجلَّى وصَوَّر/ في عيونهم مهارة".
وبعدها يتغنى بالإناث السمراوات: "السمر لاقوني/ ح اطُول الوداد/ بإيديهم سقوني/ مرار البعاد/ قولوا لي أسأل مين/ على اللي راح مني/ وفين ديارهم فين/ يا مين يوصَّلني/ الورد المدوَّر/ بخدود القمارة/ تجلَّى وصَوَّر/ في عيونهم مهارة".
الحيرة في الإختيار
هذا الإنقسام في المجتمع العربي بين
مَنْ يحازب السمار ومَنْ يحازب البياض أدى إلى أن يقع الشباب والشابات العرب في
حيرةٍ من أمرهم في ما يتعلَّق بأمور الحب والزواج وخاصةً أنَّ العرف يقضي بأن يكون
الحب لشخصٍ واحدٍ وليس أكثر، كما أنَّ الزواج هو بواحدة في الأعم، فهل يختار
الشابُّ الفتاةَ البيضاء أم السمراء، وهل تختار الفتاةُ الشابَّ الأسمر أم
الأبيض؟! وقد تمَّ التعبير عن ذلك في الشعر الغنائي صراحةً كما في أغنية المطرب
اللبناني أديب أبو أنطون "عالداير داير من دار":
أديب أبو أنطون |
"عالداير داير من دار/ حواليّ
الحلوين كتار/ هالسمرة عيونها حلوين/ والشقرا عليّ بتغار/ مين بدي نَقِّي
محتار".. إلى أن تصل الأمور إلى حد التمني بأن يكون لديه قلبان ليستطيع أن
يحب الإثنتين: "يا رب اعطيني قلبين/ تا فيي آخد التِنْتَين/ مْقَضِّيها ما
بين وبين/ مش قادر وحدي إختار/ رح تدبل وردات العمر/ مين بدي نقي محتار".
نجاح سلام |
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفتيات،
اللواتي يَحْتَرنَ في الإختيار ما بين الشاب الأسمر أم الأبيض، كما في أغنية
الفنانة نجاح سلام "أُنقر يا دف ع الطارة" (والطارة آلة موسيقية إيقاعية
تشبه الدف): "أُنْقُر يا دَفّ ع الطارة/ ودموع العين مَطَّارة/ ما بين الأسمر
والأبيض/ محتارة كتير محتارة".. ثم تتابع: " أُنْقُر يا دف ع الطارة/
واحكي لي هموم السيجارة/ الشاب الأبيض يا دِلّي/ الأسمر بيجِنّ وبيقِلِّي/ ضيَّعتي
عمري يا خسارة".. ثم في الختام يقع الإختيار: "أُنْقُر يا دف ع الطارة/
يا بَيّي كتير محتارة/ الأسمر في عنده مصاري/ والأبيض ما عندو بارة/ نَقَّيت
الأسمر يا بَيّي/ والأبيض وَدِّيه للجارة".. أي أنها في الختام تصل إلى أن
تختار من لديه فلوس (شعرٌ غنائي ظريف، بيد أنه واقعي جداً)..
حتى في المعاكسات!
صباح |
وكما يهتم الذكور والإناث بمعرفة لون
بشرة الطرف الآخر إذا ما كان عريساً أو عروساً، فإنَّ هذا الأمر وصل ليكون موضوع
الحوار الأول في المعاكسات الهاتفية، فيسأل الشابُّ الفتاةَ التي يعاكسها عبر
الهاتف عن لون بشرتها، وكذلك الأمر إذا كانت الفتاة هي التي تعاكس شاباً..
توفيق بركات |
وقد
أفرد الشاعر الغنائي اللبناني توفيق بركات أغنيةً لحَّنها الموسيقار فيلمون وهبي
وغنَّتها صباح (غلطان بالنمرة)، ويدور موضوعها حول معاكسة رجل لإمرأة اتَّضح أنها متزوِّجة من رجلٍ
غني لديها منه أولاد وهي مخلصة له، فجاء سؤاله الأول أنْ هل أنتِ بيضاء أم سمراء،
حيث يقول بركات في المطلع: "غلطان بالنمرة/ أنا مش بيضا ولا سمرا/ أنا حنطية
وعندي ولاد/ وعندي زوج بيسوى بلاد/ وبيتي بشارع الحمرا" (مع الإشارة إلى أنَّ
لون البشرة الحنطي ينتشر بكثرة في بلاد الشام.. كما أنَّ شارع الحمراء لم يكن يسكن فيه إلا الأغنياء).
الحديث التالي:
معركة غنائية حول البيض والسُمْر:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق