كنا في أواخر التسعينيات نستمع إلى إذاعة القاهرة (البرنامج العام) وهي تبث كل ساعة فقرة مقتضبة لم تكن نسنمر لأكـثر من نصف دقيقة، وكانت بعنوان "الساعة السكانية".. كنت تستمع إلى أن عدد سكان مصر يبلغ الآن كذا وكذا.. ثم بعد ساعة واحدة تجد أن سكان مصر قد زادوا أكـثر من 170 نفراً.. وما أن تمر 24 ساعة حتى يكون عدد سكان مصر قد زاد أكثر من 4 آلاف بني آدم في يوم واحد! يعني ما
كتاب
على هامش ثورة شباب مصر
تأليف: حسين احمد صبرا
الفصل الأول
هالله هالله عالجَدّ.. والجَدّ هالله هالله عليه(1من4)
وماذا عن تحديد النسل
يا شباب ثورة مصر؟!
حسين احمد صبرا
كنا في أواخر التسعينيات نستمع إلى إذاعة القاهرة (البرنامج العام) وهي تبث كل ساعة فقرة مقتضبة لم تكن تستمر لأكثـر من نصف دقيقة، وكانت بعنوان "الساعة السكانية"..
كنت تستمع إلى أن عدد سكان مصر يبلغ الآن كذا وكذا.. ثم بعد ساعة واحدة تجد أن سكان مصر قد زادوا أكثـر من 170 نفراً.. وما أن تمر 24 ساعة حتى يكون عدد سكان مصر قد زاد أكثــر من 4 آلاف بني آدم في يومٍ واحد! يعني ما يزيد عن 28 ألفاً كلَّ أسبوع.. أي نحو 125 ألفاً كلَّ شهر.. يعني 1,5 مليون عيِّل في عامٍ واحد!!
وبما أننا بدأنا حديثنا بالعبارة المصرية الدارجة: هالله هالله عالجَدّ والجَدّ هالله هالله عليه، فلا بد من التوجه بالحديث إلى شباب ثورة مصر بمنتهـى الجدية والصراحة والوضوح بعدما راحت السكرة وجاءت الفكرة.. فقلد ثاروا على النظام الحاكم ونجحوا في الإطاحة به، وطموحهم هو أن تكون مصر من الآن فصاعداً دولة قوية.. ونقول على الهامش ان هذا خيـر دليل على أن عبد الناصر لم يمت رغم مرور 40 عاماً على رحيله، مع دليل آخر بأن الحملة المسعورة عليه من قبل أعداء مصر في الداخل وفي الخارج على مدى 40 عاماً كانت أكثر دلالة على مدى خوف أعداء مصر من عودته مرةً أخرى.. ومجرد أن يطالب شباب ثورة مصر بجعل أرض المحروسة دولةً قوية فإنهم في عقلهم الواعي أو في اللاوعي يحنُّون إلى ما كانت عليه مصر من قوةٍ زَمَنَ عبد الناصر.. وهاكم ما قاله شاعرنا الكبير عبد الرحمان الأبنودي حينما ألقى عليكم قصيدته في ميدان التحرير: لا الظلم هيِّـن يا ناس ولا الشباب قاصر/ مهما حاصرتوا الميدان عمره ما يتحاصر/ فكَّرتني يالميدان بزمان وسحر زمان/ فكَّرتني بأغلى أيام من زمن ناصر.
عظيم.. ولكن!
لابد لكم يا شباب ثورة مصر من أن تستوعبوا الدرس الأول بسرعة (وليس متأخراً وبعد فوات الأوان)، وهو يتلخص بما يلي: إن الثورة أمرها سهل جداً جداً.. أما بناء دولة قوية معاصرة فأمره صعبٌ جداً جداً يا ولداه!
إليكم فيتنام كخير مثال، وقد هزمت أميركا بالأمس القريب شرَّ هزيمة وسقط من شبابها الثوار في أرض المعركة عدة ملاييـن من القتلى.. ولكن انظروا الآن إلى فيتنام أين هي، وانظروا إلى الولايات المتحدة أين هي! إن أميركا حينما كانت تعتدي على شعب فيتنام كانت ثاني أقوى دولة في العالم، ورغم هزيمتها النكراء فإنها استمرت قوية إلى أن أصبحت أقوى دولة على وجه الكرة الأرضية، لأنها لم تكن تعتمد على بناء قوَّتها العضلية فحسب، كما فعل الإتحاد السوفياتي الذي سرعان ما تهاوى، بل ولأنها كانت تعمل أيضاً على بناء حضارتها علماً وثقافةً واقتصاداً وديموقراطيةً وازدهاراً، حتـى باتت الآن محط أنظار شعوب العالم قاطبةً ومثالاً يود الجميع احتذاءه دون استثناء ولو في المنام.. ولن نسأل أين هي فيتنام الآن بنظر شعوب العالم، فقط نسأل: أين هي فيتنام بنظر شعبها نفسه؟!
إذاً، النية صادقة في جعل مصر دولة قوية، وهو حلم كل مواطن عربي من المحيط إلى الخليج منذ رحيل عبد الناصر، مُرْفَقاً باليتم الذي ما زلنا نشعر به منذ غيابه.. ولكننا ننبِّه إلى الأمر التالي:
إن مصر لن تستطيع أن تصبح بقوة الولايات المتحدة الأميركية سياسياً واقتصادياً وثقافياً وتقنياً وديمقراطياً، ولا حتى بقوة أصغر دولة غربية لا الآن ولا بعد ألف عام.. فهذا ضربٌ من التخريف والهذيان ومضيعة للوقت، اللهمَّ إلا إذا استعنَّا بعصا الساحر "فقُّوش أبو مَنتوش"!!
إلا أن باستطاعة مصر أن تحذو حذو الصين، رغم أن ذلك ليس بالأمر اليسير.. فهو أمر لن يتحقق إلا بقائمة طويلة من الشروط، وهي ليست شروطاً سهلة كما قد يتراءى للبعض.. وإليكم ما نراه:
إن أول هذه الشروط، والذي بدونه لا فائدة من تحقيق الشروط التي تليه، هو العمل بسرعة على الحد من الزيادة السكانية.. فبدون تحديد النسل لن تستطيع مصر بأي شكل من الأشكال أن تعود دولةً قويةً، وعليَّ الطلاق بالثلاثة يا عوضين يا خويا إن استطاعت!!
لأقطع ذراعي!
إن نظام الحكم الجديد الذي سيتشكل الآن في مصر، وأياً تكن تركيبته، سيصطدم بعقبة رئيسة كأداء تتمثل في زيادة سكانية تبلغ الآن 1,5 مليون نسمة كل عام.. وهذا يعني ببساطة:
1- أنَّ على الدولة أن تؤمِّن سنوياً 1,5 مليون فرصة عمل جديدة، هذا مع الإفتراض أنَّ فرص العمل هذه ستضمَن مرتباً شهرياً يتيح للحاصلين عليها أن يعيشوا عيشة كريمة.
2- أن على الدولة أن تؤمِّن سنوياً بناء 750 ألف شقة سكنية جديدة، مُشطَّبة آخر تشطيب وعلى سنكة عشرة (على اعتبار أن نصف المواليد هم من الذكور والنصف الآخر هم من الإناث، مع زيادة بسيطة لصالح الذكور تبلغ الآن 2,24%)، مع ما يستتبع ذلك من بناء طرقات جديدة مجهزة بتمديدات المياه والكهرباء والصرف الصحي، إلى ما هنالك.
3- أن على الدولة أن تؤمِّن، من الآن وحتى 14 عاماً مقبلة، بناء 1500 مدرسة إضافية على أقل تقدير، بحيث تستوعب الواحدة منها ألف تلميذ كحد أقصى من الصف الإبتدائي الأول وحتى الثانوية العامة، شرط أن يحتوي كل صف من الصفوف على ثلاثة فصول، وذلك لضمان أن يحتوي الفصل الواحد على 25 تلميذاً كحد أقصى، وإلا فلن يكون لتلك المدارس أي لزوم! ذلك أن الدولة القوية لا تحشو من أربعين إلى خمسين طالباً في فصل واحد (أي غرفة واحدة)، لأن تلامذة هذه الدولة "القوية" سيكون مستواهم العلمي بمستوى الأغبياء!
4- أنَّ على الدولة أن تؤمِّن زيادة سنوية في مساحة الأراضي الزراعية بما يضمن توفير الغذاء لمليون ونصف المليون مولود ولا سيما القمح، بما يتناسب مع مقدار الزيادة في السكان.. ناهيك عن إنفاق كمية أكبر من الأموال من خزينة الدولة لدعم بعض السلع الغذائية الأساسية..
5- أنَّ على الدولة كل عام تأمين مياه إضافية كافية للإستخدام الآدمي لمليون ونصف المليون مواطن.. ولا يجب أن يغيب عن بالنا أن سكان ال750 ألف شقة سكنية، تلك المفترض بناؤها كل عام كما ذكرنا أعلاه، سيحتاجون إلى مياه مكررة صالحة للشرب والطهو والإستحمام والغسيل والجلي وتنظيف المنزل وشطف السلالم، إلى ما هنالك.. مع الإشارة إلى أن حصة مصر من مياه النيل (المورد الأساسي للمياه في مصر) تبلغ وفق الإتفاقية الموقَّعة في السودان عام 1959 مع دول حوض النيل 55,5 مليار متر مكعب سنوياً، وهي حصة ثابتة لا تزيد لا ب"جردل" ولا ب"كنكة".. إن 80 مليون مواطن مصري إذا ما قضوا حاجتهم يومياً في الحمام وشدوا حبل "السيفون" فإنهم خلال عام كامل يستهلكون من خلال شدّ "السيفون" فقط حوالى نصف مليار متر مكعب.. فإذا كنا ما نزال نقول "يا هادي" صرفنا نصف مليار، فما بالك بالأمور الأخرى التي تتطلب استهلاكاً بكميات كبيرة جداً من المياه وبالأخص الزراعة! والأكثر خطراً إذا ما تضاعف عدد سكان أرض الكنانة بعد أربعين عاماً، في حال استمرت الزيادة السكانية على ما هي عليه الآن، فحينها سنقعد وراء الحيطة ونسمع الزيطة، إذ لن تكون هناك مياه كافية لا للزراعة ولا حتى لشدّ "السيفون"!
ونعود لطرح السؤال مجدداً:
هل أن مصر الآن، بما لديها من موارد محدودة جداً، وبغض النظر عن طبيعة النظام الذي سيحكمها، قادرة على أن تؤمِّن يومياً ومن الآن وصاعداً: 4 آلاف فرصة عمل، وألفي شقة سكنية، وأربع مدارس؟
وبحسبة أخرى، هل تستطيع أن تؤمِّن أسبوعياً: 28 ألف فرصة عمل، و14 ألف شقة سكنية، و28 مدرسة؟
يعني وبصيغة أخرى، هل تستطيع أن تؤمِّن شهرياً: 125 ألف فرصة عمل، و62 ألف شقة سكنية و125 مدرسة؟
هذا ناهيك عن مساحة الأرض التي يجب استصلاحها وكمية المياه الواجب تأمينها، وهَلُمَّ جرجر!
الجواب بكل بساطة: لا.. لن تستطيع أي دولة قوية في مصر أن تفعل ذلك، فما بالك إذا كانت ضعيفة.. وإن استطاعت لأقطع ذراعي!!
الصين.. والمشي على العجين!
لا بد أن نلفت انتباه شباب ثورة مصر إلى أن نهضة الصين التي جعلت منها الآن دولة قوية صناعياً وشبه مكتفية ذاتياً ومصدراً لنحو نصف ما تستهلكه البشرية من الإبرة وحتى أكثر الصناعات الإلكترونية تعقيداً، هذه النهضة التاريخية الكبرى لم تبدأ مسيرتها الجدية منذ زمن بعيد وإنما بدأت منذ الأمس القريب أي عام 1978..
لقد قررت الصين أن تصبح دولة قوية لا لتمارس عدوانيتها للسيطرة وإشعال الحروب وسفك الدماء وتفتيت المجتمعات الأخرى للإنتقام لعُقَد تاريخية وللهيمنة والسيطرة عليها تمهيداً لنهب ثرواتها، كما يفعل الفرس مع العرب الآن، وإنما كان هدفها الوحيد هو إطعام شعبها وإخراجه من حالة الفقر المدقع منعاً لوقوع كارثة لا تُبقي ولا تذر، وهذا ما دلّت عليه التجربة بغض النظر عن أي رأي ممكن أن يُقال في نظامها السياسي..
إن أول قرار اتخذته الصين عام 1978 حينما قررت أن تنهض نهضتها الجبارة والمذهلة التي نراها الآن، كان قرار تحديد النسل، وقد قضى هذا القرار بالسماح لكل أسرة بإنجاب طفل واحد لا غير، واللي ما يعجبوش يخبط دماغه في الحيط!
لقد صُدم العالم أجمع بهذا القرار الجائر، الذي لم يشهد تاريخ البشرية له مثيلاً من قبل وأصبح مِثال تندُّر الشعوب الأخرى.. وساد الإعتقاد بأن الدولة تُجبر الحامل على الإجهاض في ما لو سبق لها الإنجاب.. وهذا أمر غير صحيح على الإطلاق، إذ مع صدور قرار تنظيم النسل الذي يسمح بطفل واحد فقط، صدر بموازاته قرار بمنع الإجهاض وبمنع التعقيم، وكانت طبيع النظام القائم كفيلة بأن تجعل الصينيين يمشون على العجيـن ما يلخبطوهش يالدلعادي! وهذا لا يعني أن أياً من التجاوزات لا تحصل في هذا المجال، بل تحصل وإنما بنسبة قليلة ويتم التغاضي عنها.. على أن المشكلة التي رافقت تطبيق المجتمعات الصينية الإلزامي لهذا القرار كان – كما هو متوقَّع- سعي معظم الأسر للتعرف على هوية المولود الذكر لإعتبارات شبيهة بتلك الموجود في المجتمعات القبلية أو الزراعية، كما هو الحال عندنا وعند غيرنا.. ومن هنا ندرك سبب منع السلطات للإجهاض، بحيث عمد الكثير من الأسر إلى إجهاض المولود الأنثى أملاً في أن يكون الجنين في الحمل التالي ذكراً، وهذا ما كان سيؤدي حتماً إلى الإطاحة بالتوازن الإجتماعي الجنسي، بحيث تصبح المجتمعات الصينية مكوَّنة من أغلبية من الذكور وأقلية من الإناث.. ومنعاً لتلك الكارثة اتخذت السلطات قراراً بحظر استخدام أجهزة الموجات فوق الصوتية، تلك التي تحدد جنس الجنيـن، وبات هذا الجهاز أشبه بالكوكايين أو الهيرويين الذي يُحَظَّر تعاطيه في معظم دول العالم.
هذا في الصين.. فماذا عن مصر؟
(نُشر هذا الموضوع في مجلة "الشراع" اللبنانية في 14 آذار/ مارس 2011، العدد1484).
*********************************************************************
*********************************************************************
*********************************************************************
*********************************************************************
*********************************************************************
إقرأ مجلة "الشراع" اللبنانية على موقعها الإلكتروني التالي:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق