لم يكن في قلميقيا أصواتٌ معارضة
لكيرسان إيليومجينوف ولا أقلامٌ تفضح فساده، اللهم إلا صوتٌ واحد وقلمٌ واحد هو
صوت وقلم الصحافية القلميقية لاريسا يودينا، رئيسة تحرير صحيفة "كمسمولسكايا
قلميقيا اليوم"، الصادرة في العاصمة القلميقية أليستا.. فمن هي هذه الصحافية
الحرة الشجاعة، والتي قُتلت في عام 1998 واتُهم إيليومجينوف بالوقوف وراء
اغتيالها؟
إنزل إلى أسفل لمتابعة القراءة
كتاب
بوتين زعيم مافيا
(ملف ضخم عن فساد بوتين وإجرامه)
تأليف: حسين احمد صبرا
(2016)
الإهداء:
إلى روح الشهيد ألكسندر ليتفيننكو
(ضابط الإستخبارات المنشق، والذي اغتاله بوتين في لندن
عام 2006)
الطامع في ثروة سورية النفطية (16)
الوسيط النفطي بين داعش والأسد
متَّهَم باغتيال الصحافية المعارضة لاريسا يودينا
حسين احمد صبرا
إنَّ كيرسان إيليومجينوف، السياسي ورجل
الأعمال الروسي الذي صدرت ضده عقوباتٌ أميركية في 25/ 11/ 2015 لقيامه بشراء النفط
من داعش لبشار الأسد، هو واحدٌ من أكبر رموز الفساد في روسيا وصديقٌ حميم لبوتين
وعميلٌ مخلص لجهاز الإستخبارات الروسية الـ"أف. سي. بي" (الكي. جي. بي.
سابقاً)، وقد سيطر على الإتحاد العالمي للشطرنج "الفيد" وترأسه لمدة 20
عاماً متواصلة من عام 1995 وحتى تاريخ صدور العقوبات الأميركية ضده عام 2015، حتى
أنه يُقال أنْ لولا إيليومجينوف، صاحب الثروة التي تبلغ مئات الملايين من
الدولارات، لكان اتحاد "الفيد" قد أفلس منذ زمنٍ طويل.. ويبقى السؤال
الذي يطرح نفسه: من أين لكيرسان إيليومجينوف (مواليد 1962) كل هذه الثروة الضخمة،
حتى أنه عندما كان في الثلاثينيات من عمره (أي في تسعينيات القرن العشرين) كان
يمتلك 7 سيارات من طراز "رولز ريس"، كما ذكرت الصحافية القلميقية
الروسية الشهيدة لاريسا يودينا، موضوع حديثنا الآن؟
ليس لدينا أدنى شك في أنَّ إيليومجينوف
قد جمع ثروته من خلال رئاسته لجمهورية قلميقيا الروسية ذات الحكم الذاتي لمدة 17
سنة متواصلة (1993 – 2010)، وهي الجمهورية الفقيرة بمواردها والجمهورية الروسية
الوحيدة التي يعتنق سكانها الديانة البوذية، وذلك بعدما سيطر سيطرةً كاملة ومطلقة
على جميع الأعمال التجارية في جمهوريته.. كما تمكَّن إيليومجينوف، بمساعدة مرسومٍ
أصدره الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين، من فصل جميع موارد الشركة النفطية
الروسية العملاقة "سيبنفط" (فرع قلميقيا) ليؤسس شركته النفطية الخاصة به
في قلميقيا والتي حملت إسم "قلمنفط"، وقد سئل إيليومجينوف حينها أن كيف
استطاع أن يشتري الحصة المسيطرة في شركة "قلمنفط" مقابل لا شيء تقريباً،
وأن كيف انتهى الأمر إلى أن يصبح شقيقُهُ ممتلكاً لهذه الشركة، إلا أنَّ
إيليومجينوف لم يأتٍ بردٍّ مقنع.
اللافت في الأمر أنَّ إيليمجينوف
يتمتَّع بشعبية كبيرة في جمهورية قلميقيا، حتى أنه حصل في الإنتخابات الرئاسية
لعام 2001 على 85% من الأصوات.. وقد قرأنا في مقالٍ للصحافية الروسية إينيسَّا
سلافوتينسكايا (2 تموز/ يوليو 2001) بعنوان: "القصة الطويلة لكيرسان – لماذا
لا يستطيع الكرملين فعل أي شيء مع رئيس قلميقيا إيليومجينوف"، أنَّ أحد مصادر
الكرملين قال لها: "إنَّ العالم السفلي الإجرامي في جمهورية قلميقيا هادىء
إلى حدٍّ ما، وليس هناك تناحر سياسي داخلي، ذلك أنَّ الصراع داخل النخبة عادةً ما
يؤدي ببعض الناس إلى أن يكونوا على استعدادٍ للإبلاغ عن فساد الآخرين، أما في حالة
قلميقيا فلا يوجد صراع، وإنهم جميعاً متَّحدون، وإلى جانب ذلك يلعب كيرسان
إيليومجينوف على إشعار الناس يهويتهم العرقية (المغولية والصينية)، مذكِّراً إياهم
باستمرار بعصر الترحيل الستاليني حينما رحَّلهم جميعاً إلى سيبيريا (تماماً كما
فعل مع الشيشان)، وأنَّ الشعب القلميقي لم يغفر لموسكو هذا الترحيل إلى
الآن".
على أنَّ التفاف القلميقيين حول
إيليومجينوف لا يعني البتة أنه سعى إلى ازدهار جمهوريتهم، بل على العكس من ذلك،
حيث سعى إلى خدمة مصالحه الشخصية فحسب، والأمثلة كثيرة كما سنرى، ومنها على سبيل
المثال أنَّ نادي كرة القدم القلميقي المفضَّل لدى إيليومجينوف، وهو نادي
"أورلان أليستا"، تلقَّى من تمويل الجمهورية 70,2 مليون روبل (2,5 مليون
دولار) عام 2001، في حين أنَّ هذا المبلغ يعادل مرة ونصف المرة ما أُنفق في
قلميقيا على التعليم خلال أكثر من عامين، بما في ذلك مدفوعات رعاية الأطفال..
إذاً، لم يكن في قلميقيا أصواتٌ معارضة
لكيرسان إيليومجينوف ولا أقلامٌ تفضح فساده، اللهم إلا صوتٌ واحد وقلمٌ واحد هو
صوت وقلم الصحافية القلميقية لاريسا يودينا، رئيسة تحرير صحيفة "كمسمولسكايا
قلميقيا اليوم"، الصادرة في العاصمة القلميقية أليستا.. فمن هي هذه الصحافية
الحرة الشجاعة، والتي قُتلت في عام 1998 واتُهم إيليومجينوف بالوقوف وراء
اغتيالها؟
لاريسا يودينا تفضح فساد إيليومجينوف
![]() |
لاريسا يودينا |
![]() |
لاريسا يودينا في صباها |
![]() |
تربية الأغنام في المراعي القلميقية |
آخر ما كانت تحقق فيه لاريسا يودينا قبيل
اغتيالها هو اختلاس أموال الميزانية العامة داخل الشركات البحرية، ما أدى إلى
ازدياد الضغوط عليها.. إذ نَشَرَت مقالاتٍ تتهم فيها رئيس قلميقيا كيرسان
إيليومجينوف بالفساد، ولا سيما خطته لإنشاء منطقة بحرية في الجمهورية تقع على
السهول الواقعة شمال بحر قزوين ويقطنها 320 ألف نسمة من البوذيين، وأيضاً عَزْم
إيليومجينوف على بناء مدينة للشطرنج لإستضافة بطولة الشطرنج الدولية لعام 1998..
وقد قالت لاريسا يودينا قبل اغتيالها بفترةٍ في مقابلةٍ إذاعية مع "الإذاعة
الوطنية العامة" (NPR) تسنَّى لنا العثور على نصها الحرفي الكامل:
"إنَّ الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان تُنتهك هنا (في قلميقيا) أكثر من أي
مكانٍ في روسيا، إذ لدينا قوانين تتعارض مع الدستور الروسي".. ثم قالت، كما
لو أنها كانت تخشى أن يتم قتلها: "صحيح أنني أعيش في روسيا ولكنني لستُ
متأكدة من أنَّ القوانين الروسية تحميني هنا"..
![]() |
موقع قلميقية على الخريطة الروسية (باللون الأحمر) |
وحول الوثائق التي بحوزتها عن تورط
الرئيس إيليومجينوف بقضايا فسادٍ مالي قالت لاريسا يودينا: "حاولتُ الإتصال
بمكتب المدعي العام، لكنهم انتزعوا الوثائق من يدي ومزَّقوها، فاستخدمت العصا ضدهم
فقفزوا إلى خارج الرواق، ثم ظهر رئيس جهاز الأمن وقال: "سوف أقتلها
الآن"، وسدَّد بندقيته نحوي وأطلق منها الرصاص فأصاب السقوف والجدران.
ولاحقاً عندما أتى فريق التحقيق ليحقِّق بما جرى زعموا أن لا ثقوب جراء الرصاص لا
على السقوف ولا على الجدران"..
إغتيال لاريسا يودينا
![]() |
لاريسا يودينا تحمل طفلتها |
![]() |
جنازة الشهيدة لاريسا يودينا |
قرأنا في الموقع الإلكتروني لحزب
"يابلوكو" الليبرالي في بيانٍ له صادر في 22 تشرين الأول/ أكتوبر عام
2010 (أي بعد 12 عاماً على اغتيالها) أنَّ الشخص الذي أمر بقتل لاريسا يودينا
"لم يتم تحديد هويته حتى الآن، على الرغم من أنَّ التحقيق يعرف إسمه"..
كما قرأنا في موقع حزب "يابلوكو" نفسه رسالةً مفتوحة وجَّهها الحزب إلى
مندوبي الجمعية العامة لمؤتمر الإتحاد العالمي للشطرنج "الفيد" في 20
أيلول/ سبتمبر 2010، يحث فيها الإتحاد على عدم انتخاب إيليومجينوف رئيساً له مرةً
أخرى، ومما جاء فيها: "إنَّ إنتخابات رئاسة "الفيد" سيتم إجراؤها
في 29 أيلول/ سبتمبر الجاري، ويتنافس على منصب الرئاسة الرئيس الحالي
لــ"الفيد" كيرسان إيليومجينوف وبطل العالم في الشطرنج أناتولي كاربوف.
إنَّ الحزب الديمقراطي المتحد "يابلوكو" يناشدكم بأن تمنعوا إعادة
انتخاب كيرسان إيليومجينوف، الذي هو واحد من أكبر الشخصيات السياسية المشينة.
وينظر حزب "يابلوكو" دوماً إلى نظام كيرسان إيليومجينوف في جمهورية
قلميقيا على أنه محكومٌ دون حسيبٍ أو رقيب لمدة 17 عاماً من قبل إيليومجينوف، الذي
هو واحد من أبشع المظاهر في التاريخ السياسي لروسيا في العقدين الماضيين (1991 –
2010)، حيث يمثِّل خلطة من الحكم التسلطي والفساد والجريمة".. ويتابع حزب
"يابلوكو" في رسالته إلى "الفيد" محمِّلاً إيليومجينوف
مسؤولية اغتيال يودينا، قائلاً: "إنَّ لاريسا يودينا، رئيسة فرع قلميقيا لحزب
"يابلوكو"، قد دفعت في عام 1998 حياتها ثمناً لمحاربة هذا النظام، وقد
ساعد إيليومجينوف على ارتكاب هذه الجريمة. وبرأينا أنَّ كيرسان إيليومجينوف
يتحمَّل تماماً المسؤولية عن هذه الجريمة".
![]() |
مظاهرة لحزب "يابلوكو" الروسي المعارض |
جديرٌ بالذكر أنه بعد مقتل لاريسا يودينا قام بعلُها واثنان من الصحافيين بالإستمرار في إصدار صحيفة "كمسمولسكايا قلميقية اليوم" مرَّتين في الشهر، وباتت تتلقى الدعم المادي من خارج قلميقيا، حيث قامت صحف روسية أخرى من خارج الجمهورية بتقديم المساعدة للصحيفة، وقد تعرَّضت صحيفةٌ واحدة منها إلى الضغط من قبل إيليومجينوف بسبب تقديمها المساعدة.
أما ما يثير سخريتنا فهو أنَّ كيرسان
إيليومجينوف، المتَّهم بالفساد في قلميقيا، والمتهم بالفساد في إتحاد
"الفيد" للشطرنج، والمتَّهم باغتيال لاريسا يودينا، والمتهم بالعمل
كوسيط نفطي بين داعش وبشار الأسد، كان ينوي الترشح لرئاسة الإتحاد الدولي لكرة
القدم "الفيفا"، إذ قال في مقابلةٍ معه قبل يومٍ واحد من صدور العقوبات
الأميركية ضده إنه يطمح في المستقبل أن يترشَّح بجدية لرئاسة "الفيفا"،
وأضاف: "لدي رؤية حول كيفية صناعة كرة القدم التي ما تزال الأكثر شعبية،
وتطهير الفساد المنظَّم فيها كما فعلنا مع "الفيد"..".
نختم حديثنا بما كتبه أحد مراسلي الموقع الإلكتروني لصحيفة "التايمز" اللندنية عن لاريسا يودينا، إذ قال: "الشجاعة الحقيقية تكمن فقط في أن تبقى امرأةٌ عَزْلاء في الخمسينيات من عمرها تقاتلُ من أجل الحقيقة في هذا المكان البعيد".
الحديث التالي:
الحديث السابق:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق