كانت أم كلثوم تشكو في مجالسها الخاصة
من كثرة استخدام مطربات تلك الأيام لجُمْلٍ موَّاليَّة من قبيل "يا ليلي
ياعيني" على المسارح بشكلٍ مبتذَل.. ويروي موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب
في حديثٍ إذاعي أنَّ أم كلثوم قالت هذا الكلام أمامه في الأستديو أثناء تمرينها
على الأغنية التي كان يلحِّنها لها وهي أغنية "ودارت الأيام" عام 1970 (كلمات مأمون الشنّاوي)..
وهنا لمعت الفكرة في ذهن عبد الوهاب المتَّقد...
إنزل إلى أسفل لقراءة الموضوع كاملاً
(2 من 4)
في الذكرى الأربعين لرحيل كوكب الشرق نكتب ولأول مرة
عندما غنت أم كلثوم:
"شوف اليأس بيعمل إيه"
حسين احمد صبرا
أدَّت نكسة السابع من حزيران/ يونيو
عام 1967 إلى حدوث انقلابٍ في عالم الغناء العربي، والذي كانت مصر تتزعَّمه، وقد
تَنَازَعَ هذا الإنقلاب اتجاهان: إتجاهٌ نحو الأغاني الخفيفة والتي يقل مستواها
اللحني والصوتي عن المستوى الذي كان سائداً آنذاك وصعود نجم مغنِّيات من الوزن
المتواضع مثل عايدة الشاعر وليلى نظمي ثم عودة ظهور مهى صبري وغيرهن.. واتجاهٌ نحو
إعادة إنتاج التراث الغنائي والذي تزعَّمه بدون منازع المايسترو الكبير عبد الحليم نويرة عبر "فرقة الموسيقى
العربية" منذ منتصف عام 1967، أي عقب النكسة مباشرةً ..
 |
| أم كلثوم مع عبد الوهاب |
ضمن هذه الأجواء كانت أم كلثوم تشكو في مجالسها
الخاصة من كثرة استخدام مطربات تلك الأيام لجُمْلٍ موَّاليَّة من قبيل "يا
ليلي ياعيني" على المسارح بشكلٍ مبتذَل.. ويروي موسيقار الأجيال محمد عبد
الوهاب في حديثٍ إذاعي أنَّ أم كلثوم قالت هذا الكلام أمامه في الأستديو أثناء
تمرينها على الأغنية التي كان يلحِّنها لها وهي أغنية "ودارت الأيام"
عام 1970 (كلمات مأمون
الشنّاوي).. وهنا لمعت الفكرة في ذهن عبد الوهاب المتَّقد، ذلك أنَّ هذا الأستاذ
الكبير بذكائه الحاد وموهبته الفذَّة وجد أنَّ تكرار المغنِّيات لجملة "يا
ليلي يا عيني" على المسارح لها معنى واحد وهو أنَّ هذه الجملة تلقى استحباباً
وتجاوباً من جمهور المستمعين، وإلا لَمَا كانت المغنِّيات تردِّدْنَها، فما كان
منه إلا أن طلب من الشاعر الغنائي مأمون الشنّاوي إضافة مقطع غنائي يتضمَّن
"يا ليلي يا عيني"، فكتب مأمون الشنّاوي المقطع التالي، وهو المقطع
الأخير من الأغنية، حيث قال فيه باقتضاب: "عيني يا عيني عالعاشقين/ حيارى
مظلومين/ عالصبر مش قادرين"، وسارع عبد الوهاب إلى تلحين هذا المقطع، ومَنْ
يستمع إليه في الأغنية سيلاحظ أنَّ موسيقار الأجيال راح يردَّد وينغِّم جملة "عيني
يا عيني" حتى انتزعت أم كلثوم آهات جمهورها المستمع إليها في الحفلة
وتصفيقهم، وقد تعمِّد عبد الوهاب تلحين هذا المقطع من مقام الرست الشديد الطرب،
وتحديداً من النغمات العُلوية، وهو النصف العُلوي من المقام الذي درج الملحنون على
استعماله في المواويل التي يبدأونها بجملة
"يا ليلي يا عيني".. بيد أنَّ أم كلثوم رفضت في البداية غناء هذا
المقطع، وهذا الأمر اضْطَرَّ عبدَ الوهاب إلى أن يغنيه بدلاً منها أثناء البروفات،
وقال لها: "يعني إيه، إنتي عايزاني بكرة أنا اللي أطلع على المسرح وغنِّيه
بدالك؟!".. إلى أن رضخت كوكب الشرق وغنَّته، ولاقى هذا المقطع نجاحاً
وتجاوباً كبيرين من قبل جمهور المستمعين وما يزال..
شوف القسوة بتعمل إيه
في رمضان عام 1995 قدَّم الإذاعي
الكبير الراحل جلال معوَّض برنامجاً في إذاعة القاهرة من خمسين حلقة على ما نذكر،
وكان بعنوان "عصرٌ من الغناء، سهرة مع كوكب الشرق أم كلثوم".. هذا
البرنامج عبارة عن مقدِّمة قصيرة بصوت جلال معوَّض يقدِّم فيها في كل حلقة أغنية
أو أكثر من أغاني حفلات أم كلثوم التي ظلَّت الإذاعة المصرية تنقلها مباشرةً على
مدى أكثر من ربع قرن، يليه مقدِّمة بصوت المذيع الذي كان موجوداً في المسرح وينقل
حفل أم كلثوم مباشرةً على الهواء، ثم تبدأ أم كلثوم في الغناء..
وللمزيد من الشرح، فإنَّ كوكب الشرق
كانت في حفلاتها تردِّد المقطع الواحد مرّاتٍ ومرّاتٍ حيث كانت الأغنية الواحدة
تمتد على مدى نحو ساعتين أو ساعة ونصف الساعة على الأقل، وعندما كانت تنتهي من
حفلتها فإنها كانت في الأيام التالية تتوجَّه إلى الأستديو لعمل مونتاج لأغانيها
وذلك بانتقاء المقاطع الأصلح والتي لا يوجد فيها نشاز بصوتها (حيث النشاز أمرٌ
وارد جداً عند كل مطربي الحفلات) واختصار الأغنية بحيث لا تتجاوز مدَّتها 45 أو 50
دقيقة.. لكنَّ جلال معوَّض راح في أغلب حلقات برنامجه ينتقي مقاطع لم تكن أم كلثوم
تنتقيها، بحيث سرعان ما تميِّزها أُذُن المواظبين على سماع أغاني أم كلثوم عبر
الأسطوانات أو شرائط الكاسيت أو الإذاعات..
ما نريد أن نصل إليه، وهو ما نكتبه
لأول مرة، هو أنَّ جلال معوَّض عندما أذاع في إحدى حلقات برنامجه أغنية "إسأل
روحك" (كلمات عبد الوهاب محمد/ ألحان محمد الموجي) تعمَّد حسب رأينا أن ينتقي
مقطعاً ارتكبت أم كلثوم فيه نشازاً واضحاً، وقد انتبهنا إليه أثناء استماعنا إليه
(وقد سجَّلنا كل حلقات هذا البرنامج)، مع الإشارة إلى أنَّ جلال معوض انتقى
المقاطع من الحفل الذي غنَّت فيه أم كلثوم أغنية "إسأل روحك" لأول مرة مطلع
عام 1970.. وقد جاء هذا النَشَزُ (الذي هو أمرٌ طبيعي ووارد عند جميع المغنّين دون
استثناء) في وقتٍ كانت أم كلثوم قد أمضت وقتاً طويلاً في الغناء، وقد نَشَزَت
حينما كانت تغني القفلة التي تتردَّد في نهاية كل مقطع غنائي من تلك الأغنية، حيث
كانت تقول: "وبقيت أطوي حنيني إليك/ واكره ضَعفي وصبري عليك".. وكان
النَشْزُ واضحاً إلى درجة أنَّ أم كلثوم نفسها أحسَّت به، ثم تابعت الغناء قائلة:
"وِفْضِلْت أَبْعِد وعرِفْت
أَعْنِد/ حتى الهَجْر قِدِرْت عليه/ شوف شوف شوف اليأس بيعمل إيه"،
وقد استبدلت بسرعة بديهتها كلمة "القسوة" بكلمة "اليأس"،
ليعلو بعدها تصفيقٌ حاد من الجمهور وقد فهموا قصدَها..
إليكم تحليلنا للسبب الذي دفع أم كلثوم
لأن تقول :"شوف اليأس بيعمل إيه"، ونسأل بدايةً: ماذا أرادت أم كلثوم
القول من خلال كلمة "اليأس"؟! إليكم إجابتنا، لقد استخدمت هذه الفنانة
العبقرية كلمة "اليأس" بغية استدراك ما حصل والإعتذار من الجمهور على ما
بدر منها من نَشْزٍ غير مقصود، وهي في الوقت نفسه لامست وتراً حساساً لأمرٍ كان
يقضُّ مضاجع المصريين في ذلك الوقت، فما هو؟!
 |
| أم كلثوم مع عبد الناصر |
في ذلك الوقت كانت حرب الإستنزاف على
أشدِّها بين مصر عبد الناصر والعدو الإسرائيلي، والتحضيرات للحرب المقبلة قائمة
على قدمٍ وساق في أرض الكنانة للثأر من هزيمة 1967، وكانت مشكلة مصر آنذاك هي في
الإختراق الجوي الإسرائيلي للأجواء المصرية لعدم اكتمال بناء شبكة الصواريخ
المصرية المضادة للطيران، وقد وصل الطيران الإسرائيلي عام 1969 إلى ما فوق أجواء
القاهرة وضرب مدرسة بحر البقر للأطفال وضرب مصانع أبو زعبل، وكانت مبادرة وزير
الخارجية الأميركي على الأبواب وقد قبل بها عبد الناصر الذي كان بحاجة إلى هدنة
لمدة 6 أشهر مع العدو ليستطيع إكمال بناء حائط الصواريخ المضادة للطيران.. ضمن هذه
الأجواء العصيبة كلِّها والتي عاشها جميع المصريين آنذاك وكانت تصل بهم أحياناً
إلى حالٍ من اليأس والإحباط، كانت أم كلثوم تغنّي في حفلتها كالمعتاد وصودف أن
نَشَزَ صوتها فأكملت الغناء لتقول: "شوف اليأس بيعمل إيه"..
(نُشر هذا الموضوع في مجلة
"الشراع" اللبنانية بتاريخ 16 شباط/ فبراير 2015، العدد رقم 1684).
الحديث السابق:
الحديث التالي:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق