رحم الله كاتبنا الكبيـر محمود السعدني (الشقيق الأكبر للفنان صلاح السعدني)، والذي رحل عنا مطلع شهر أيار/ مايو 2010 بعدما نجح في تحقيق أمنية حياته..
فلقد استمعنا إليه قبل سنواتٍ عديدة عبر أثيـر إذاعة القاهرة في إعادة لحديث طويل أُجري معه في أواخر الستينيات، قال فيه
إنزل إلى أسفل لقراءة الموضوع كاملاً
رحل الولد الشقي محمود السعدني
زعيم حزب "زي ما انت شايف"!
حسين احمد صبرا
رحم الله كاتبنا الكبيـر محمود السعدني (الشقيق الأكبـر للفنان صلاح السعدني)، والذي رحل عنا مطلع شهر أيار/ مايو 2010 بعدما نجح في تحقيق أمنية حياته.. فلقد استمعنا إليه قبل سنواتٍ عديدة عبـر أثيـر إذاعة القاهرة في إعادة لحديث طويل أُجري معه في أواخر الستينيات، قال فيه إنَّ أمنيته الوحيدة في الحياة أن يعيش عمراً مديداً لأنه سيشعر ببالغ السعادة إذا ما خاطبه الناس حينها بقولهم له: يا طويل العمر!
لقد رحل "العمدة" أو "الولد الشقي"، كما كان يحب أن يسمـي نفسه، عن عمر فاق التسعيـن، وقد بدأ شقاوته منذ سن الطفولة في ريف مصر وهو يَحْدِف الناس بالطوب والحجارة، ثم أمضى عمره وهو يَحْدِف الناس بالكلمات والتعابير الناقدة والساخرة المتهكمة والمثيـرة للضحك حتى الثمالة، حتى أصبح الكاتب الساخر رقم واحد في الوطن العربي.
إن ميـزة محمود السعدني أنه كان يتناول قضايا فائقة الأهمية وبالغة الجديّة وشديدة التعقيد بأسلوب ساخر تهكُّمي، ليتَّضح لقارئه مدى عمق فكره وقيمة آرائه وتحاليله في شتى الميادين بدءاً من السياسة وانتهاءً بالرياضة (في لبنان عرفنا كاتباً من هذا الطراز وهو الكاتب الكبيـر الأديب والزميل الراحل معروف سويد، الذي احتلَّت كتاباته الصفحة الأخيـرة من مجلة "الشراع" اللبنانية منذ أواسط الثمانينيات وحـتى أواخر التسعينيات).
الأديب معروف سويد |
الفنان صلاح السعدني مع شقيقه الأكبر محمود السعدني |
لم يَدَع محمود السعدني صحيفة مصرية حكومية أو حزبية إلا وكتب فيها، وقد كانت معظم كتاباته مختصَرة لا تتجاوز صفحةً واحدةً بخط اليد، كان يضع فيها عصارة فكره النيّـر وخفة ظله النادرة وكمّاً هائلاً من الطوب والحجارة.. وقد صدر له العديد من الكتب، وأذكر على عجل بعضاً منها: مذكرات الولد الشقي- الطريق إلى زمش- تمام يا افندم- حكايات قهوة كتكوت- عودة الحمار- ألحان من السماء.. ولنا عودة مستقبلاً للحديث بإفاضة عن سيرة حياة راحلنا الكبير وأهم إبداعاته.
ولا يسعنا ونحن نتحدَّث بعجالة عن الولد الشقي محمود السعدني إلا أن نُورد عيِّنة من كتاباته على سبيل المثال لا الحصر.. فهو مثلاً قد دافع بكتابةٍ مختصَرة جداً عن عبد الناصر، منـزِّهاً إياه عن التهمة التي أشاعها ضده أعداؤه عقب وفاته حينما اتهموه بسرقة مبلغ 600 ألف جنيه من أموال الدولة، وقد بزَّ محمود السعدني بكتابته المختصَرة تلك مئات الصفحات التي كتبها المدافعون عن قائد مصر وأمة العرب.. قال محمود السعدني في عموده القصير في جريدة "العربي" التابعة للحزت العربي الناصري مطلع التسعينيات أنه وبينما كان مسجوناً في عصر عبد الناصر بسبب كتاباته وآرائه السياسية صادف في السجن موظفاً حكومياً صغيراً أُلقي القبض عليه متلبساً بتهمة سرقة مبلغ مليون جنيه.. وهنا يُعلِّق محمود السعدني متسائلاً بما معناه: إذا كان موظفٌ حكوميٌّ صغير يسرق مليون جنيه في الستينيات، فكيف لعبد الناصر الذي كانت جميع أموال الدولة تحت يده أن يكتفي بسرقة 600 ألف جنيه فقط! فهو لو أراد أن يسرق لسرق كل أموال الدولة!
"صباح الخير" كرَّمته في عدد خاص (11/5/2010) بمناسبة رحيله |
المفارقة أن الحزب العربي الناصري سرعان ما طرد محمود السعدني من جريدة "العربي" التابعة له أواسط التسعينيات بعدما كتب في عموده القصيـر في الصفحة الأخيرة من تلك الجريدة متهكماً من الخلافات الناشبة بـين أعضاء هذا الحزب.. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على عقم الأحزاب العربية، التي تعود عقليتها إلى عصر الكهوف.. وقد خَبِـرَ محمود السعدني عن قرب كل الأحزاب المصرية ولا سيما في السنوات العديدة التـي أمضاها مسجوناً في عصر عبد الناصر وأيام السادات.. وقد تهكَّم عليها بكتابه "الطريق إلى زمش"، حيث أسس في السجن على سبيل التهكُّم من تلك الأحزاب، حزباً خاصاً به سمّاه "زمش"، وهو اختصار لعبارة: زي ما انت شايف!
ونختم هذه العجالة بعبارة كتبها محمود السعدني في جريدة "العربي" عام 1993 متهكماً من لجوء الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن إلى استخدام القوة العسكرية لقمع تمرد البرلمان الروسي ضده بزعامة النائب رسلان حَسَبَلاّتوف.. لقد صادف أن قرأت- أنا كاتب هذه السطور- تلك العبارة بعد منتصف الليل، ولشدة ما أثارت فيَّ الضحك فقد أذهبي بالنوم من عيني حتى بزوغ الفجر.. وفي اليوم التالي قرأت هذه العبارة على مسامع أفراد عائلتي، ومنذ ذلك الحـين تحوَّلت إلى نكتة الموسم ضمن الأسرة! لقد كتب محمود السعدني في ختام عموده مخاطباً بوريس يلتسن بالقول (كما جاء بالحرف الواحد):
- هذا ومن حقِّكَ أيها الجنـرال العظيم أن تَزْهُوَ وأَنْ تَفْخَرَ.. أَنْ تَزْهُوَ وأَنْ تَفْخَرَ.. أَنْ تَزْهُوَ وأَنْ تَفْخَرَ.. وبالعربي الفصيح: أَنتَ فْ (...)!
(نُشر هذا الموضوع في مجلة "الشراع" اللبنانية في 17 أيار/ مايو 2010، العدد1442).
**************************************************************
إقرأ مجلة "الشراع" اللبنانية من على موقعها الإلكتروني التالي:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق